المناحي الاقتصادية
الأصل من القصد في المعيشة ألا يسرف الإنسان ولا يقتر( ) ، والاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها( ) .
ومن الملاحظ أن الحديث عن أي مذهب اقتصادي لأي مجتمع هو حديث عن الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها العملية( ) .
ـ بدايات الاقتصاد العربي في الدولة الإسلامية:
قد يكون بعض العلماء المسلمين دوّن دراسة عن النظم الاقتصادية أو عبّر عن الواقع الاقتصادي الذي كان سائداً بالنظم. ويحتمل أن تكون تلك المدونات قد اندثرت أو اختفت ولم يسمح لها بالظهور تحت تأثير قوة أو سطوة الأغنياء الحاكمين من أمراء وخلفاء، "وربما اتخذوا القهر وسيلة لذلك، أو لعلهم اتخذوا المال والعطايا يقدمونها للعلماء ليتحكموا في أقلامهم، ويسيطروا على
عقولهم( ) ".
وربما كان هذا هو السبب الرئيس الذي جعل ظهور علم الاقتصاد السياسي في الفكر العربي غير واضح، كما يجب أن يكون الوضوح في مثل هذه المسالة الدقيقة التي تحتاجها الأمة لتسعد بحياتها كلها.
غير أن كثيراً من الشعر الذي تناول الاقتصاد أو دار حول الواقع الاقتصادي نجا من عبث العابثين، كما لم : يلفت نظر أولئك الذين اتخذوا القهر وسيلة للتحكم في أقلام العلماء. فجاء يعكس أحوال المجتمع الإسلامي الاقتصادي في أطواره المختلفة، وكان راصداً للتغييرات الاقتصادية منذ تكون الدولة الإسلامية على يد الرسول في المدينة المنورة.
ومهمة هذا الفصل تتمثل في الكشف عن المواقف والأفكار الاقتصادية الإيجابية من خلال هذا الشعر الاقتصادي كما يتناول بعض المواقف السلبية أيضاً، ولكن كيف بدأ الاقتصاد العربي في الدولة الإسلامية؟
تحدث القرآن الكريم عن اتصال العرب الاقتصادي بغيرهم من الأمم فقال: لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. فأحد هاتين الرحلتين كانت إلى الشام، حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس، وإذاً فهناك حركة تجارية، وهذا يشير إلى وجود الطبقية.
والقرآن يقسم العرب إلى فريقين، فريق الأغنياء المستأثرين بالثروة المسرفين في الربا، وفريق المعدمين، وقد وقف الإسلام في صراحة وحزم وقوة إلى جانب هؤلاء الفقراء المستضعفين، وناضل عنهم، وذاد خصومهم، والمسرفين في ظلمهم"( ) .
فكانت مواقف الرسول الاقتصادية مبنية على معالجة الواقع الذي يجده بين يديه، فلا يدخر شيئاً من أموال المسلمين، للمسلمين، بل يوزع "الإيرادات التي ترده في الحال على المستحقين( ) وربما تغنى بها بعض من أصابته.
روى ابن الأثير( ) أن معاوية بن ثور قدم هو وولده بشر وافدين على النبي (ص) وكان قال لولده بشر: "إذا جئت رسول الله (ص) فقل ثلاث كلمات لا تنقص منهن ولا تزيد عليهن، قل: السلام عليك يا رسول الله، أتيتك يا رسول الله، لأسلم عليك، نسلّم إليك، وتدعو لي بالبركة". قال بشر: ففعلتهن، فمسح رسول الله (ص) على رأسي، ودعا لي بالبركة وأعطاني عنزاً عفراء (بيضاء)، فقال ابنه محمد بن بشر:
وأبي الذي مسح النبي برأسه
ودعا لـه بالخير والبركات
أعطاه أحمد إذ أتاه أعنزا
عفرا ثواجل لسن باللجبات( )
يملأن رفد الحي كل عشية
ويعود ذاك الملء بالعذرات( )
وكان بعض الإبل والخيل والماشية يبقى لدى الرسول، فيجعلها في مراع خاصة لها( ) ".
ثم جاء أبو بكر فيما بعد، فصار ينفق موارد الدولة كلها أولاً بأول. فلما مات لم يجدوا عنده من مال الدولة إلا ديناراً سقط من غرارة"( ) .
ثم جاء عمر بن الخطاب فأنشأ بيت المال على حكاية الماوردي( ) ، وفرض العطاء حين استدعى عقيل بن أبي طالب ومحزمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا نساب قريش، وقال لهم: اكتبوا للناس على منازلهم( ) . ثم توسعت العلاقات الاجتماعية، ونمت الطبقية بوسائل مشروعة وغير مشروعة، مما يدل أنها تجنبت التقيد بسمات الاقتصاد الإسلامي. وأمام هذه الحالة، كان لابد من المعالجة القرآنية السريعة المتمثلة بالمواقف القرآنية.
حافظ الإسلام على الملكية الفردية، إلا أنه حارب تكديس الثروة وجمعها في يد فئة قليلة عن طريق الزكاة، والتوريث، وتحريم كنز الأموال، وجعل العمل والميراث الطريقين المشروعين للحصول على المال. فالعمل ابتغاء من فضل الله كما في القرآن: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضله الله( ) .
والميراث ساعد في توزيع الثروة على أكبر قدر ممكن من الذرية كما في القرآن: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء، فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك، إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له أخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيما. ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة ( ) أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من الله، والله عليم حليم( ) .
وتحريم كنز الأموال واضح في قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم( ) .
وإذا حصلت الثروة من طريق الفيء في الحرب، فإن القرآن جاعل فيها حقوقاً للمستضعفين من الأمة الذين لم يتمكنوا من الاشتراك، فقال الله تعالى: "واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول، ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل( ) .
والوصية عامل حيوي في التقليل من مساوئ تكديس المال كما في قوله تعالى: فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين( ) .
وقد علل الإسلام أسباب تشريعه السابق في توزيع المال بقوله تعالى: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( ) . وبعد هذه المعالجة صار المال عند الناس على شاكلتين. نزر قليل لا يلبث أن يصرف في وجهه المشروع له،. وكثير متكدس لأمور مشروعة، وأخرى غير مشروعة. فالأمور المشروعة ما ورد من الفيء ومن الدولة وغير المشروعة ما حصلت بطرق ملتوية، فتضخم أمر الطبقة الغنية.
واجه بعض الشعراء الإيجابيين تلك الطبقة، ففضح طرقها غير المشروعة في الكسب وتساءل عن مصدر أموالها وطالب الخليفة بمحاسبتها وإعادة أموال الشعب المنهوبة إلى بيت مال المسلمين بوعي شامل وإحساس صادق. كما فعل عبد الله بن همام السلولي( ) .
ولكن هذه الأصوات الأدبية المناضلة ضد هذا الوضع، لم تكن قادرة على صد التسرب المالي الذي راح يشكل تجمعاً طبقياً.
كما لم تكن هناك حلول قريباً أو بعيداً، يعالج أوضاع ا لطبقة الفقيرة التي خلفها نهم الطبقة الأولى للمال. فيما بعد صار واضحاً تماماً وجود هاتين الطبقتين الاقتصاديتين.
"الأولى تتألف من تلك الارستقراطية العربية من أصحاب الثروات الضخمة والإقطاعات الكبيرة، والضياع الواسعة، الذين تركزت في أيديهم ثروة الكوفة.. ومن أولئك الدهاقين الذين كانوا يمثلون الأرستقراطية الفارسية، والذين استطاعوا بإسلامهم في الوقت المناسب أن ينقذوا بقايا نفوذهم القديم.
وأما الأخرى فتتألف من تلك الكتلة الشعبية الضخمة من العرب الذين لم تتح لهم فرصة الثراء، ومن أولئك الموالي الذين كانوا في ظروف اجتماعية واقتصادية سيئة، ومن أولئك الأجانب الذين لم يقتنعوا بالإسلام، وإنما قبلوا دفع الجزية في نظير احتفاظهم بديانتهم السابقة( ) ".
وفي البصرة أيضاً وجد قوم ملكوا الأرض واقتنوا القصور وجمعوا المال الكثير منذ أيام عمر بن الخطاب. وقد سأل عمر أنس بن جحية عن مسلمي البصرة، فقال له: "لقد انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة( ) ". ومن الواضح أن وجود هاتين الطبقتين لم يكن مفاجئاً. فقد تحدث القرآن عن المسرفين الذين لا يحبهم الله من أبناء الطبقة الثرية، ونهى عن الإسراف فقال: ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين( ) . كما دعا إلى إنقاذ الطبقة المعدمة اللاصقة بالتراب لشدة عوزها وحاجتها، فتحدث عن المسكين ذي المتربة.( )
وهكذا وجد الشعراء أنفسهم أمام مفاهيم خطيرة تجتاح حياة الأمة الجديدة، فأدرك بعضهم واجبه تجاه الواقع الجديد، وقال في أغراض شعرية جديدة
فسجل الأحداث الاقتصادية السلبية وفضحها، فكان سجلاً خالداً في هذا المضمار. وقد أثبت الشعر الاقتصادي الإيجابي أنه كانت تقوم بين الطرفين علاقات اجتماعية لا تخلو من القهر نتيجة للتضامن الكبير بينهما، كما أن هذا الفرق الكبير كان يثير في نفوس كثير من المعدمين المرارة والألم. فيعبرون عن هذا الإحساس بصورة أدبية إيجابية، وأحياناً يلجأ بعضهم إلى أسلوب سلبي قائم على الاستكانة والاستجداء والاستعطاف.
ولا نشك أن الأسلوب الإيجابي الذي يدعو إلى التغيير، ويعمق الإحساس بالفوارق، ويدعو إلى التثوير، هو أسلوب نقدي ثوري يشبه إلى حد كبير مذاهب النقاد والأدباء الثوريين في عصرنا( ) كما أن الأسلوب السلبي القائم على الاستعطاف، يشبه إلى حد كبير مواقف الأدباء والمفكرين الإصلاحيين في بداية هذا القرن( ) وقد تكون الشواهد الشعرية السبيل الأوضح إلى النفوس، ونحن نحاول إثبات هذا السجل الأدبي والتاريخي بين السلب والإيجاب.
كان أصحاب المفاهيم الاقتصادية السلبية من الشعراء يظهرون مواقفهم من خلال الحديث عن همومهم الفردية والشكوى من الفقر، فيستجدون ويستعطفون، ويجعلون من وصف حالهم وسيلة للحصول على المال فينحازون إلى مواقع السلطة، ومكامن الثروة يبحثون عن حلول لديهم تخلصهم من الفقر والعوز. وربما لجأ الواحد منهم إلى التهريج والسخرية فيضحك الناس منه، دون مبالاة مادامت النتيجة هي الحصول على المال، كما في قول الحكم بن عبدل الأسدي( ) ، وهو يمدح بعض أجواد الكوفة مستجدياً( ) :
يا أبا طلحة الجواد أغثني
بسجال من سيبك المقسوم
أحي نفسي ـ فدتك نفسي ـ فإني
مفلس ـ قد علمت ذاك ـ عديم
أو تطوع لنا بسلف دقيق
أجره ـ إن فعلت ذاك ـ عظيم
قد علمتم -فلا تقاعس عني ـ
ما قضى الله في طعام اليتيم
ليس لي غير جرة وأصيص
وكتاب منمنم كالوشوم
وكساء أبيعه برغيف
قد رقعنا خروقه بأديم
وأكاف أعارنيه نشيط( )
ولحاف لكل ضيف كريم
رث حبلي فقد ذكرت أصيصي
ولحافي حتى تغور النجوم
ولم يمض ا بن عبدل إلى نهاية الشوط في استجدائه، فراح يضع يده على أسباب هذا التفاوت الطبقي الكبير، فينتقل من السلبية إلى حالة من التحرك الإيجابي غير الفعال، فيتجه إلى الطبقة الأرستقراطية يصب سياطه اللاذعة عليها، ولا يوفر منها أحداً.
ولكنه لا يرى في هجائه لهم جهاداً أمام أبناء طبقته، ويفعل ذلك انتقاماً لشخصه بعد أن سألهم فلم يعطوه. وهكذا تنقل المشكلة من إطارها الجماعي العام إلى إطارها الفردي الخاص بوعي قاصر لم يبصر المشكلة في إطارها الحسي الاجتماعي، واكتفى بجعلها هموماً فردية، تفرغ التذمر من روح المجاهدين من أجل الحق والعدل.
هنا ويمضي شعراء آخرون يدعون إلى الثورة الشاملة التي تنهي مظاهر الظلم الاجتماعي، وينهجون في شعرهم منهج الواقعية الثورية. يلتزمون قضايا المجتمع في رؤيا الاشتراكية، ترى الحياة في حركتها التاريخية الثورية، وتدرك ارتباط الظواهر الاجتماعية بالبناء العام للمجتمع.
وقد مثل هذا التيار الشاعر الثائر عبيد الله بن الحر( ) الذي "كان شجاعاً فاتكاً لا يعطي الأمراء طاعة"( ) ، وكان يوجه جهده وجهد أصحابه إلى بيوت المال في الأقاليم الإسلامية المختلفة ينهبها ويستولي على مافيها، ثم يوزعها على أصحابه الصعاليك الذين كان يقول عنهم: إنهم "بطانتي وأصحابي وإخواني اتقي بهم أن نابني أمر، أو خفت ظلامة من أمير جائر"( ) .
أدرك ابن الحر عقم صيحات الاستجداء والاستعطاف، فانطلق ثائراً اقتصادياً ينظر إلى الواقع الاجتماعي الفاسد، ويدرك سوء توزيع الثروة الذي أوجد واقعاً اقتصادياً فاسداً كذلك، فكان لابد أن يثور بهؤلاء الفقراء على أصحاب الأموال الطائلة من الأمراء والولاة. وقد كان فهم بعض الباحثين( ) لهذا قاصراً حين رأى فيه نزعة أرستقراطية.
إن شعر عبد الله يصور إحساس الفقراء الذين ينتمون إلى الطبقة الدنيا، ويحفل بآلام الشقاء والفقر. وقد مثَّل هذا الإحساس باندفاعة ثورية قاد فيها جموع الفقراء، وتطلع إلى علاقات جديدة تنتفي فيها صور القهر، ولجأ إلى القوة في سبيل تغير الواقع الفاسد وإيجاد المجتمع الجديد، ولم يبالِ بالموت في سبيل الوصول إلى الأهداف، السامية دون وجل أو خوف، وكان يقول:
تخوفني بالقتل قومي، ولما
أموت إذا جاء الكتاب المؤجل
لعل القنا تدنى بأطرافها الغنى
فنحيا كراماً نجتدي ونؤمل
ألم تر أن الفقر يزري بأهله
وأن الغنى فيه العلي والتجمل
وأنك إن لا تركب الهول لا تنل
من المال ما يرضي الصديق ويفضل( )
وقد كان مؤمناً بآية السيف، وأنها الطريق الصحيح لإعادة الحق إلى أصحابه بعد أن فرغت آية القلم من مضمونها، ولكنه كان يشكو قصر الوعي الثوري في أصحابه، فكان يتمنى لو أن لديه أربعة رجال مثل صلابة رفيقه جرير لكان هاجم بيت المال وخلّصه من مصعب بن الزبير وأعاده إلى الناس:
لو أن لي مثل جرير أربعه
صبحت بيت المال حتى أجمعه
ولم يهلني مصعب ومن معه( )
ويفتخر بنزعته التي تقوم على العدالة والاشتراكية، فالمغنم قسمة حقه بين أصحابه( ) :
إذا ما غنمنا مغنماً كان قسمة
ولم نتبع رأي الشحيح المتارك
هذان موقفان متناقضان من الطبقتين المتناقضتين. الأول سلبي مثله ابن عبدل. والثاني إيجابي مثله عبيد الله ابن الحر.
ولابد من الاعتراف بخيبة الأمل التي ظهرت فيما بعد عند الذين تأملوا نجاح التيار الإيجابي، حيث كان مؤلماً ألا ينجح هؤلاء في إيجاد المجتمع الذي كانوا يناضلون من أجله.
وربما كان لهذا الإخفاق كثير من الأسباب في طليعتها تبديد القوة المادية، وعدم عقد مؤتمرات مشتركة لأصحاب الحق الموزعين في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، لدعم القوة الفكرية. كذلك يلاحظ أن الظروف التي كانت البلاد الإسلامية تمر بها لم تكن مساعدة لقيام تلك الأفكار في مؤسسات شرعية، ولاسيما بعد أن أجهضت حركاتها أكثر من مرة في أكثر من إقليم إسلامي.
وهناك مواقف أخرى أكثر دقة اتخذها الشعراء من الواقع الاقتصادي والسياسي، أهمها:
ـ تصوير الواقع السلبي الذي خلفه التناقض الطبقي.
ـ فضح أصحاب الخراج وأصحاب الصدقات.
ـ مقاومة سياسة الولاة الاقتصادية الفاسدة ورفضها.
- تصوير الواقع السلبي الذي خلفه التناقض الطبقي:
أدى ذلك الكيان الطبقي المتناقض إلى إيجاد إفرازات ضارة بالفقراء أهمها تلك التي خلخلت كيان الأسرة. فأمام الغنى الفاحش، مثل الفقر بقامته الهزيلة فارتعدت فرائض النسوة الفقيرات وهن يشاهدن نساء القصور بوفر نعيم وعيش حلو عميم، فتعمق لديهن الإحساس بالبؤس والشقاء. وصار بعضهن يرغب بتغير زوجه ليتخلصن من الفقر، فتصدع كيان الأسر وتمزقت العواطف الإنسانية.
وعلى ما يبدو فإن هذه الظاهرة انتشرت بوقت مبكر، فقد اهتز كيان أسرة الصحابي سعيد بن زيد( ) زوج فاطمة بنت الخطاب وتعرض لهذا الأذى المنتشر حين صوره في قوله( ) :
تلك عرساي تنطقان على عَمْدٍ لـ
ي اليومَ قولَ زُوْروَ( ) هتْرِ
سألتاني الطلاق أن رأتا ما
لي قليلاً؛ فقد جئتماني بُنكْرِ
فلعلّي أن يكثر المال عندي
ويُعَرَّى من المغارم ظهريَ
ويلتفت من التمني إلى واقع ماثل أمامه، فيرسم صورة لأمانيّه المستقبلية تعكس لنا الواقع البيتي للطبقة الغنية التي ترفل بأثواب النعيم حيث العبيد والنساء المناصيف، والخير العميم مما يسر وتطرب له النسوة فيرضين:
وتُرَى أعبدٌ لنا وأواقٍ
ومناصيف من خوادم عَشْرِ( )
ونجرُّ الأذيال في نعمة زَوْ
لٍ تقولان ضع عصاك الدَّهْرِ
ويجنّب سرَّ النَّجيَّ ولكنَّ أخا الـ
ـمال مُحْضَرٌ كلَّ سرِّ
وَيْ كَأنَّ من يكن له نْشَبٌ يحبّـ
ـب ومن يفتقر يعش عيش ضُرِّ
وَالحق أن هذه الأبيات تدل على وعي الشاعر القاصر أيضاً، فقد رأى أمامه واقعاً طبقياً غير صحيح، فلم يتجه الوجهة الثورية المطلوبة، فيرفع صوته محتجاً، ويعلوبه في الأرضين من حوله يثير الناس، ويعمق إحساسهم كما فعل أبو ذر الغفاري (رض)، بل استسلم للواقع كما هو، وراح يتمنى أن يصل إلى المراتب المادية العليا وهو يعالج تمرد نسائه عليه. في حين كان عليه ـ وقد سألتاه الطلاق لقلة ماله ـ أن يفعل، فما قامت بيوت عمادها المال وحده.
ويبدو أن أثر الاحتكارات المالية والغنى في تمزق أواصر الأسر الإسلامية كان واضحاً. فعلى مدى حكم الخلفاء الراشدين والأمويين كانت تلك المواقف تتكرر.
كما يلاحظ أن الغزوات، وما خلفته من مغانم وفيء لم تمح تلك المفاهيم، وكانت سلبيات التناقض الطبقي تظهر دائماً بنفس الآليّة تقريباً، ولنستمع معاً إلى هذا الحوار بين أعشى همدان وزوجه( ) :
قالت تعاتبني عرسي وتسألني
أين الدراهم عنَّا والدنانيرُ
فقلت: أنفقتها والله يخلفها
والدّهر ذو مرّة عُسْرٌ ومَيْسُورُ
إِنْ يُرزقِ الله أعدائي فقد رُزِقَتْ
من قبلهم في مراعيها الخنازيرُ
قالت فرزقك رزق غيرُ مُتّسع
وما لديك من الخيرات قطميرُ
وقد رضيتَ بأن تحيا على رمقٍ
يوماً فيوماً كما تحيا العصافير( )
ولم يقف أثر المال في إفساد العلاقات الأسرية فحسب، فقد ظهر هذا الأثر السلبي في بروز ظاهرة النفاق للأغنياء.
بيّن بعض الشعراء كيف يحبّ الناسُ الأغنياء، وإن كانوا بخلاء لا خير فيهم يرتجى، قال سَلَمَة بنُ زيد بنِ وهب الفهري( ) :
رأيتُ الناس مُذْ خُلقوا وكانوا
يحبّون الغنيَّ من الرجالِ
وإن كان الغنيُّ قليلُ خيرٍ
بخيلاً بالقليلِ من النَّوالِ
فما أدري علامَ وفيمَ هذا
وماذا يرتجونَ من البِخالِ( )
أللدّنيا؟ فليس هناك دنيا
ولا يُرْجَى لحادثة الليالي( )
وقد لا يصدق المرء أن كثيراً من الغازين كانوا يندفعون إلى القتال طمعاً في مال يصيبونه. لا جهاداً أو حباً في الجهاد. فبعض المقاتلين يفضح نواياه بذاته وهو يبكي على المهلب بن أبي صفرة حين مات ، والحقيقة أنه يبكي المغانم والمكاسب التي فقدها، بموت المهلب فيبكيه بكاء علاقةٍ متعدَّيةٍ يوضحها نهار بن توسعة التميمي( ) بقوله:
ألا ذهبَ الغزو المقرِّبِ للغنى
ومات النَّدى والجود بعد المهلّب
أباحَ لنا سهلَ البلادِ وحزنَها
بِخَيْلٍ كأرسالِ القطا المتسرِّبِ
ولاشك أن هذا الشعر وأمثاله وثيقة تكشف عن سلبيات أصحابه الذين اندفعوا إلى القتال تحت تأثير حب المال، وما يرونه من تناقض طبقي كان يحثهم على القتال مغيرين الوجهة الحقة التي يقاتل من أجلها المسلم عادة.
وليس هذا جديداً على المبصرين، كما أنه معروف قديماً لدى المسلمين المنصفين. ومن طريف هذا الأمر ما قاله رجل يسمى ابن ظبيان( ) . وقد مر بابنة مطرف( ) بالبصرة، فقيل لها: هذا قاتل أبيكِ فقالت في سبيل الله أبي( ) ، فقال:
فلا في سبيل الله لاقى حمامه
أبوك ولكن في سبيلِ الدَّرَاهِمِ
ونقف على كثير من النصوص الشعرية والنثرية التي تثبت أسباب الغزو الاقتصادية بعيداً عن الأسباب الدينية، ولطالما كتب الحجاج بن يوسف إلى المهلب أو ابنه يزيد يريد منهما غزو ناحية معينة لخيراتها. وقد كتب مرة إلى يزيد بن المهلب أن اغزو خوارزم، فكتب إليه: "أيها الأمير، إنها قليلة السلب، شديدة الكلب"( ) .
كما كان قتيبة بن مسلم الباهلي قد أباح نهب البلاد التي ذهب فيها غازياً، فدّون الشعر وثائق إيجابية تفضح سلبيات المطامع المادية التي أبعدت الغازين عن صلب معتقدهم، وأنستهم أنهم مبشرون وليسوا خازنين. وقد عبر كعب الأشقري عن واقع قادة الجند الذين ينطلقون تحت رايات المطامع المادية يزيدون أموالهم كل يوم، ويمزقون أواصر المجتمعات البشرية بدعوى الريادة الدينية!..( ) قال:
كل يوم يحوي قتيبة نهباً
ويزيد الأموالَ مالاً جديدَا
دوّخَ السُّغْدَ بِالكتائبِ حتى
ترك السُّغْدَ بالعراءِ قعودَا
فَوَلِيْدٌ يَبكي لِفَقْدِ أبيهِ
وأَبٌ مَوْجَعٌ يُبكّي الوليدَا
كلما حلَّ بلدةً أو أَتاها
تَرَكَتْ خيلُهُ بها أخُدْودَا
وقد عالج هذه المسألة كثير من الباحثين، ونفى بعضهم( ) أن يكون المال وراء الفتوح، مدعياً أن النزعة الروحية أقوى فيهم من النزعة المادية.
ولعل تتبع الخيط الاقتصادي من أول نشوء الدولة الإسلامية يفنّد الرأي العاطفي الذي سلكه الباحث. وقد صار واضحاً أن السبيل الذي سلكناه في إظهار أثر المال في إيجاد انحرافات فكرية قد كشفها الدور الإيجابي الذي لعبه الشعر الاقتصادي بقصد من الشعراء، أو دون قصد. ولاشك أن اعتراف الباحث نفسه بالأثر المادي واضح في قوله: ولكن المادة على كل حال كان لها تأثير قليل أو كثير فيهم".( )
وقد لا يصدق المرء أحياناً المبالغ الخيالية التي جمعها بعض من أفاد من الحروب، كأن تصل ثروة أحدهم إلى "ألف ألف( ) ألفي ألف".
وهكذا عمّق الوجود الطبقي التناقضات الاجتماعية وجرف الناس بعيداً عن الروح الإسلامية الحقة تحت تأثير المال. فانتشر الظلم، وفقد العدل( ) ، وكان الذين أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج والعصبية العربية، مما دفع عمر ابن عبد العزيز أن يكتب إلى والي خراسان جملته الشهيرة: "إن الله بعث محمداً (ص) داعياً ولم يبعثه خازناً"( )
فضح أصحاب الخراج وأصحاب الصدقات:
الخراج والصدقات نظام السياسة الاقتصادية في الإسلام لحفظ التوازن بين الطبقات، فعن طريق الإتاوة (الخراج) والصدقة(الزكاة) تكفل الدولة مبدأ التوازن الاجتماعي. فالدولة الإسلامية "تكون مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين، بقطع النظر من الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم"( ) .
وقد حمّل القرآن ولي الأمر مسؤولية الإعالة والإنفاق مبيناً المصارف، ومُصْدِرَاً "حكماً عاماً في الصدقة بجميع أقسامها، فتشمل المال الذي تدفعه الدولة إلى العاجز والمعوز لأنه ضرب في الصدقة".( )
فقال تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل فريضة من الله، والله عليم حكيم( ) .
وقد حمَّل الوالي مسؤولية توزيع هذه الأموال، قال الإمام موسى بن جعفر بشأن تحديد مسؤولية الوالي في الأموال: "إن الوالي يأخذ المال فيوجهه الوجه الذي وجهه الله له، على ثمانية أسهم، للفقراء والمساكين، يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق، ولا تقية. فإن فضل من ذلك شيءٌ، رد إلى الوالي، وإن نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به، كان على الوالي أن يمونهم من عنده، بقدر سعتهم حتى يستغنوا"( ) .
وهذا الموضوع واسع بابه، ولكن المهم فيه أن نعرف دور الدولة في المحافظة على التوازن الاجتماعي، وأن نعرف أيضاً، مواقف الشعراء من الولاة الذين لا ينفذون إرادة الإسلام في المحافظة على هذا التوازن الاجتماعي وحين ينحرفون عن التعاليم السماوية.
وقد تخلَّى ولاة الخلفاء عن هذا النظام الاقتصادي، فدخله اضطراب كثير. فمن جهة كثرت الإقطاعات للولاة والعمال وزعماء العرب( ) .، ومن جهة فرض على الناس كثير من الضرائب الاستثنائية، وكان الولاة يتفننون في ذلك، فتارة تفرض باسم أجور عمال الخراج، وتارة تفرض باسم نفقات العقود وسك النقود وغير ذلك، من تذرع بقوة الجيش وحاجة صاحبه من المعونة( ) .
وقد استنفذ بعض الشعراء فرص التذكير بما جاء في الإسلام، وعلم أن فرائص القوم لم تعد ترتعد خوفاً من الله كما كان الأمر أيام الرسول (ص) وأيام أصحابه الأوائل وأن فرائصهم ترتعد خوفاً من التشهير، فلجأ بعضهم إلى الشعر، يرفع به صوت المقهورين، ويفضح سوء تصرف الولاة الظالمين.
هذا عبد الله بن همّام السلولي( ) يفضح الولاة والقادة الذين يأكلون أموال الشعب، ويطاردهم في كل مكان متجهاً اتجاهاً واسعاً يأخذ على عاتقه كشف الظلم والزيف، يقف مع الشعب، ولا يهمه الحزب والحاكم سواء أكان زبيرياً أم أموياً، ولا يرى والياً ظالماً سارقاً إلا ويجب أن يقف بوجهه ويفضحه. وله في هذا المجال مواقف إيجابية مشرفة.
فقد فضح ولاة وعمال خراج المنطقة الشرقية من دولة ابن الزبير، كما أثار نقمة الشعب عليهم، وذكره بأن عماله لصوص يستولون على قوت الشعب ومقدراته، يحتكرونه ثم يبيعونه للتجار، ويقتسمون مال الخراج فيما بينهم، ويصرفون تلك الأموال المنهوبة على ملذاتهم وشهواتهم. ويظهرون الورع والتقوى ويغتصبون حق الشعب، ثم يقدم كشفاً اجتماعياً واقتصادياً بحالهم قبل توليهم وبعده مظهراً المفارقة الكبيرة متسائلاً عن مصدر غناهم، وبعد ذلك يفضح أسماءهم ومواقفهم، ويطالبه بمعاقبتهم، ليعترفوا بكل شيء نهبوه أو سلبوه، يقول( ) :
يابن الزّبير أمير المؤمنين ألم
يبلغك ما فعل العمال بالعَمَلِ
باعوا التّجار طعام الأرض واقتسموا
صلب الخراجِ شحاحاً قسمة النَّفَلِ
وفيك طالب حق ذو عوانيةٍ
جلد القوى ليس بالواني ولا الوَكَلِ
اشدد يدك بزيد( ) إن ظفرت به
واشف الأرامل من دحروجة الجُعَلِ( )
إنَّا مُنينا بضبٍّ( ) من بني خلفٍ
يرى الخيانة شرب الماءِ بالعَسَلِ
يلاحظ المرء كيف بدأ الشاعر قصيدته بنداء ابن الزبير وبالاعتراف به أميراً للمؤمنين وما هذا إلا ليشعره بعظيم الجريرة التي يرتكبها عماله من جهة وليشعره بضرورة المحاسبة القاصمة التي بدأ يجرد لها كثيراً من العمال، ثم يحث الخليفة على إنزال العقاب بهم:
خُذِ، العُصَيْفِيْرِ فانتف ريش ناهضيهِ
حتى ينوءَ بشَّرٍ بعد مُقْتَبَلِ( )
وما أمانة عتّاب( ) بِسالمةٍ
لا غمز فيها، ولكن جَمَّة السُّبُلِ
وقيس كندة( ) قد طالت إمارته
بِسُرَّةِ الأرضِ بين السهلِ والجبلِ
وخُذْ حُجَيراً( ) فأتبعه محاسبةً
ومن عَذَرْتَ فلا تعذر بني قَفَلِ
ما رابني منهم إلا ارتفاعُهُمْ
إلى الخبيص عن الصحّناة والبَصَلِ( )
ثم يكشف المفارقة بين من يغزو ويعرض نفسه للموت دون أن يصيبه شيء، ومن يلتصق بالأرض لا يبرحها، تأتيه الأموال وهو متكئ وذلك ليعمق إحساس الجماهير بالمظالم السائدة، فيقول:
وما غلامٌ على أرضٍ مسالمةٍ
كَمَنْ غَزَا دستبنّى( ) غير مُجْتَعَلِ
يُجبى إليه خراجُ الأرضِ متّكِئَاً
مُسْتَهْزِئَاً بِغناءِ القينة الفُضُلِ( )
والوالبيّ الذي مهرانُ أمّره
فزالَ مهران مذموماً ولم يزُلِ( )
ودونك ابن أبي عُشٍّ وصاحبَه
قبل السبُّيعِ فقد أجرى على مَهَلِ( )
لا تجعلن مالَ بيت المالِ مأكلةً
لكل أزرقَ من هَمْدَانَ مُكْتَحَلِ
ومنقذُ بنُ طريفٍ من بني أَسَدٍ
أُنْبِئْتُ عاملهم قد راح ذا ثَقَلِ( )
وما أُخَيْنَسُ جُعْفِيُّ بمانعهِ
من المتاعِ قيامُ الليلِ بالطَّوَلِ( )
دعوة إلى إنقاذ بيت المال، وكشف لأولئك الذين يتظاهرون بالورع دون أن يمنعهم ورعهم من الخيانة، ومتابعة كاملة لكل اللصوص من العمال، ولنستمع إلى بقية العريضة الفاضحة، يقول:
وآخران من العُمَّالِ عندهما
بعض المَنَالةِ إِنْ تُرْفِقْ بها تَنَلِ
محمد بن عُمير والذي كَذَبَتْ
بكرٌ عليهِ غداةَ الرَّوْعِ والْوَهَلِ( )
وما فراتٌ وإن قيل : امرؤٌ وَرِعٌ
إن نالَ شيئاً بذاكَ الخَائِفِ الوَجِلِ( )
والحارثيُّ سيرضى أن تقاسمه
إِذا تجاوزتَ عن أعمالهِ الأُوَلِ( )
وادعُ الأقارعَ فاقرعهم بداهيةٍ
واحمل خيانةَ مسعودٍ على جَملِ( )
كانوا أَتَوْنَا رِجالاً، لا ركابَ لهم
فأصبحوا اليومَ أهلَ الخيلِ والأبلِ
لن يُعْتِبُوكَ ولما يَعْلُ هامَهُم
ضَرْبُ السّياط وشدٌّ بعدُ في الحُجَلِ( )
إن السّياط إذا عضت غواربَهم
أَبْدَوْا ذخائرَ من مالٍ ومن حُلَلٍ
ولا يكتفي الشاعر بفضحهم بل يدعوا إلى إنزال العقاب الصارم بهم. فضرب السياط، وشد الحجول في السجون كفيلان بإخراج ما سرقوه من مال وحلال.
إن شخصية الشاعر هنا تمثل شخصية البطل الإيجابي الثوري، وصوته صوت إيجابي يقابل الأصوات السلبية الراضخة تحت مطامعها، وهي عارفة كل ما يجري، ولكنها فضلت السكوت مدة ثم تجاوزت سكونه إلى ضجيج القصور مادحة كاذبة.
ولاشك أنه قد تجسدت في هذه القضية وأمثالها مطامح الفقراء الذين كانوا يريدون القبض على سارقي قوت الشعب، ومحاكمتهم ولكنهم لا يجرؤون على الحديث، فيكون مثل هذا الشعر رئة لهم يتنفسون منها، ويعبرون عن أمانيهم فيها. وغني عن البيان أن هذا الشعر ثوري تقدمي بالنسبة لذاك العصر. وهو الذي يقدم نماذج الشخصيات الإيجابية الواثقة من إمكانية صنع مستقبل زاهر، بالرغم من المعاناة اليومية، وبالرغم من تشويه التعاليم السماوية كل يوم. كما أنها شخصية إيجابية، إلا أن صوت عبد الله كان في الطليعة.
كثير من الشعراء ظل يفضل السكوت طالما أن مصالحه ومصالح قبيلته لم تصب بسوء. فلا يرتفع لهم صوت إلا إذا امتد الحيف إلى تلك المصالح.
فقد تقدم الشاعر الراعي على لسان قومه بني نمير بشكواه إلى عبد الملك ابن مروان يشرح فيها سلبيات عمال الصدقات، وفي هذه العبارات الشعرية التي رفعها صوت إيجابي من شخصية سلبية، إلا أنها عبارات واقعية من اليوميات التعسفية التي كان المسلمون يعانون منها تحت ظل الخلافة الإسلامية التي لم تكن متمسكة إلا بما يخدمها من الدين.
يمثل الراعي إذن نوعية جديدة من الشخصيات السلبية، تميزت بـالموقف المتناقض. من ذلك مثلاً سكوته قبل الجور المحدق به، وهو يرى جوراً وضيقاً يحيط بغير قبيلتهِ من المسلمين، ولكنه ظل ساكتاً بالرغم من حاجة المسلمين الماسة إلى كل صوت ثوري. وباعتبار أن البحث يتناول الشعر لا الشعراء على الأغلب فإننا ندرج صوته بين الأصوات الثورية التي سلكت سبل فضح الظالمين، قال الراعي( ) وقد رفع صوته إلى عبد الملك بن مروان أميراً للمؤمنين، يفضح طريقة جباية أموال الزكاة:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة
تشكو إليه مَضَلَّةً وعويلا
عَرَبٌ نرى لله في أموالنا
حقَّ الزكاةِ منزّلاً تنزيلا
إنَّ السّعاة عصوكَ يوم أمرتهم
وأتوا دواهي لو علمت وغولا
ثم يستعرض أعمالهم ووحشيتهم وهم يجبون الزكاة، فيقول:
أخذوا العريف فقطعوا حيزومه
بالأصبحيّة قائماً مغلولا( )
حتى إذا لم يتركوا لعظامِهِ
لحماً ولا لفؤادهِ معقولا
جاؤوا بصكهم وأحدب أَسْأَرَتْ
منه السياط يراعةً إِجفيلا( )
أخذوا حمولته وأصبح قاعداً
لا يستطيع عن الديارِ حويلا( )
يدعو أمير المؤمنين ودونه
خَرْقٌ تجرُّ بهِ الرياحُ ذُيولا( )
ثم أمر برفع المظالم، وإلغاء الضريبة الاستثنائية، وأمر بحطّ الجزية عمن أسلم( ) ، وأرسل إلى الأطراف عمالاً جدداً ينفذون سياسته العادلة. ولكن هذا لم يمنع استمرار الظلم في المناطق البعيدة عند أولئك العمال الذين كانوا ينبذون كتاب أمير المؤمنين ويستحلون المحرمات. فقد قدم رجل إلى الخليفة فوجده على المنبر فقال( ) :
إنَّ الذين بعثت في أقطارهم
نبذوا كتابكَ واستحلَّ الْمَحْرَمُ
طُلْسُ الثيابِ على منابرِ أرضنا
كل يجور وكلّهم يتظلَّم
وإنما كنى بغبرة الثياب عن قذارة نفوسهم، وأنهم ليسوا أعفاء، ويبدو أن الخليفة الجديد لم يستطع أن يطهر دولته من الذئاب البشرية المغتصبة لحقوق الجماهير. فكانت الأصوات الإيجابية تستغل الروح الإيجابية التي تمتع بها، فترفع له أصوات المسحوقين، وتطالبه بإنزال أقصى العقاب بهؤلاء المارقين، ومن جماهير خراسان ينطلق صوت كعب الأشقري، فيخاطب الخليفة قائلاً( ) :
إن كنت تحفظ مايليك فإِنما
عمال أرضك بالبلادِ ذِئاب
لن يستجيبوا للذي تدعو لـه
حتى تجلد بالسيوف رقاب
ولاشك أن طبقة الموالي كانت من أكثر المتضررين جوعاً وفقراً وكان صوتهم يعبر عن مدى الظلم الذي لحق بهم، وقد عبر شاعرهم أبو حرة عما انتابهم من ألم وجوع، فقال
)
أبلغ أمية عني إن عرضت لها
وابن الزبير وأبلغ ذلك العربا
إن الموالي أضحت وهي عاتبة
على الخليفة تشكو الجوع والحربا
وكأنه قدصار من المعروف لدى الناس أن من يتولى أمراً للدولة لابد أن يغتني عن طريق الخيانة والسرقة، فكان صوت بعض الشعراء.
كهداهد كسر الرماة جناحه
يدعو بقارعة الطريق هديلا
إن هذا المقطع يمثل صورة واقعية كانت تكرر دائماً في حياة شعب مسلم مسكين ظُلم باسم الإسلام.
ومن الملاحظ أن فضح قوى القهر السياسي والاجتماعي، وأساليبها القاسية هذه قد عالجها كثير من الأدباء الثوريين في العصور الحديثة. ويعتبر عبد الله النديم البطل الثوري المصري خير من صور طريقة تحصيل الضرائب، ونهب قوت الشعب وخيراته في مصر أيام القرن التاسع عشر، وقد كتب ذات مرة يصف تلك الطرق: ((كانت طرق تحصيل الضرائب تقشعر لها الأبدان، قوامها الإذلال والإهانة والإيلام، فإذا هبط المأمور للإشراف على تحصيل الضرائب، طلب سكانها واحداً بعد واحد، فمن دفع نجا من عذاب أليم ولا يناله إلا بعض السياط تشبع نَهم المأمور للضرب. ومن قصرت يده ألقاه الجلادون على الأرض وقطعوا هابه بالسياط فإذا نجا من الموت أودِعَ السجن( ) ....)). فالصورة التي وصفها الراعي قريبة من مقالة النديم.
فقد جاء السعاة إلى شيخ القبيلة، فقيدوه واقفاً وصاروا يلهبون وسطه بالسياط حتى أكلوا لحمه من كثرة الضرب. ثم جاؤوا بصحيفة الصدقات وهو يرتجف خوفاً، فأخذوا حمولته من الدواب وتركوه عاجزاً بين عويل وصراخ. ثم ادعى الشاعر أن الشيخ المسلوب صار يستنجد بالخليفة مما هو فيه. ويبدو أن حقيقة الحال غير ذلك، لكن الشاعر لا يملك إلا أن يقول ما قال.
ثم ينسج صورة واقعية أكبر من الأولى يصف فيها قوى القهر التي كانت تطارد قبيلته من مكان لآخر لتحتلبها، ويستنجد به ليخلص قومه مما هم فيه، ويطلب إليه أن يرفع الظلم عنهم، فيقول( ) :
أخليفة الرحمن إن عشيرتي
أمسى سوامهم عزين فلولا( )
قوم على الإسلام لم يمنعوا
ماعونهم ويضيعوا التهليلا( )
قطعوا اليمامَةَ يُطْرَدوَنَ كأنهم
قوم أصابوا ظالمين قتيلا
يحدون حُدْبَاً مائلاً أشرافها
في كل مُقْرَبَةٍ يَدَعْنَ رعيلا( )
شَهْرِي ربيع ما تذوق لَبُونُهمْ
إلا حُمُوْضاً وَخْمَةً وذَبيلا( )
وأتاهم يحيى فشدَّ عليهم
عقداً يراه المسلمون ثقيلا( )
كُتُباً تركن غنيهم ذا عيلة
بعد الغنى وفقيرهم مهزولا( )
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا
لم يفعلوا مما أمرت فتيلا( )
أنت الخليفة عدلـه ونواله
وإذا أردت لظالم تنكيلا
فادفع مظالم عَيَّلَتْ أبناءنا
عنا وأنقذ شلونا المأكولا( )
فنرى عطيَّة ذاكَ إنْ أَعْطَيْتَهُ
من ربنا فضلاً ومنك جزيلا
وإذا كان هذا يحدث في نجد وبين البدو، فماكان يحدث في ريف العراق من العسف والظلم في جمع الخراج كان أشد وأحد، وقد هاجر الموالي إزاء ذلك كله ففزع عمال الخراج إلى الحجاج، وكتبوا إليه: "إن الخراج قد انكسر، وأن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار، فكتب إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل في قرية فليخرج إليها. فخرج الناس وعسكروا، فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه! يا محمداه!.. وجعلوا لا يدرونَ أين يذهبون! فجعل قراء أهل البصرة يخروجون إليهم مقنعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون".( )
وقد شعر عمر بن عبد العزيز بالظلم المحيط بأهل الأمصار من جراء جمع الخراج، فأمر أن يحرز في غير ظلم، فإن يك كفافاً فسبيل ذلك، وإلا فالدولة توفر للجند الأعطيات.( )
فالشاعر الراعي يتحدث عما حلّ بقبيلته، لكن هذا حال أغلب البلاد حتى صار كثير من الشعراء يعلنون هذه الحقيقة وهم يرفعونها إلى من يتولى إمارة ما، قد ولي حارثة بن بدر كوره (سرّق) من أعمال الأهواز، فخرج إليها فشيّعه الناس، وكان فيهم أبو الأسود الدؤلي، فقال له( ) :
أحارِ بنَ بَدْرٍ قد وَلّيتَ إِمارَةً
فكن جرذاً فيها تخون وتَسْرِقُ
فلا تَحقرنَ يا حار شيئاً تصبه
فحظُّكَ من ملك العراقيْنِ سرّقُ
فإِنَّ جميع الناسِ إما مُكَذِّبٌ
يقولُ بما يهوى وإمّا مصدَّقُ
يقولون أقوالاً بظنٍ وشبهة
فإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
ولا تعجزن فالعجز أخبث مركب
فما كلُّ مدفوعٍ إلى الرزقِ يُرْزَقُ
وبارز تميماً بالغنى إنما الغنى
لسان به المرءُ الهيوبة ينطِقُ
ولاشك أن الشعر الاقتصادي قد صور نظم الدولة الاقتصادية، وما اعتور تطبيقها من خلال واضطراب. كما صور المشكلة الاقتصادية في إطارها الاجتماعي وكان كثير من الشعراء يفرغ في هذا الشعر روح التذمر الاجتماعية والسياسية والمضايقة التي حلت بالناس، وإلا فما هو المدخل إلى النَّيْلِ من كبار الولاةِ الذين جنحوا عن الصوابِ وابتعدوا عن الحقِ كمصعبِ بن الزبير الذي راح يعبث بأموال الدولة، ويأخذ أعطيات الجند ويتركهم جياعاً ليمهر سكينة بنت الحسين ألف ألف درهم، فينطلق صوت عبد الله بن همام
السلولي فاضحاً قوى القهر الجديدة مخاطباً أخاه عبد الله بن الزبير، وهو قابع في مكة( ) :
أبلغ أمير المؤمنين رسالةً
من ناصحٍ لك لا يريد خِدَاعا
بضع الفتاة بألف ألف كامل
وتبيت سادات الجنود جياعا
لَوْلأَبِي حَفْصٍ أقول مقالتي
وأبث ما أبثثتكم لارتاعا
وإذا بدا واضحاً لدينا أن الشعر الاقتصادي قد فضح قوى القهر السياسي التي كانت تسيطر على رقاب المسلمين، وصور الخلل والاضطراب الذي حل، نكون قد وقفنا على دور الشعر في بيان سبب واضح من أسباب انهيار الدولة الإسلامية بشكل مبكر.
المناحي التربوية
- التربية
التربية علم يرمي إلى مساعدة الطفل والمراهق البالغ على تكوين شخصيته وتنميتها( ) . وهي نظام اجتماعي ينبع من فلسفة كل أمة( ) كما أنها عملية نمو، بمعنى أن الغرض الأول والأهم والطريقة المثلى، والأخطر هي أن تكون التربية مجالاً لنمو المتربي جسداً وعاطفةً وعقلاً واجتماعاً ومعرفة ومهارةً، إنها عملية نمو للشخصية الإنسانية كاملة بوصفها كلاًّ لا يتجزأ، بوصفها جسداً ونفساً، عقلاً وعاطفة وعملاً، بوصفها مواقف وتصرفات، مشاعر ونوايا، مفاهيم وأعمال( ) .
وعلى هذا تكون التربية من الوجهة الأولى، علماً معيارياً، ومن الوجهة الثانية جهازاً اجتماعياً يعبر عن روح العقيدة السائدة في أمة من الأمم، ومن الوجهة الثالثة حوضاً خصباً تتكامل فيه كل متطلبات المتربي.
ومن التعريف الثاني أيضاً تكون: "التربية الإسلامية جهازاً اجتماعياً يعبر عن روح الفلسفة الإسلامية من جهة، ويحقق تلك الفلسفة من جهة أخرى( ) ".
وقد لا يكون الشعر مزرعة للأعمدة التربوية التي تقوم عليها أمة من الأمم. ولكنه لا يخلو من القيم التربوية، والفضائل التربوية والبحث في شخصية الأولاد الخلقية والنفسية والجسدية.
فإذا تجاوزنا تعريف التربية إلى هدفها، فليس من شك أننا لا نستطيع حصر هذه الأهداف أو تحديدها، وإنما نكتفي بالحديث عن أهمها حسب ماجاء في الشعر الذي نثبته في هذا الفصل، ونشير إلى امتدادها المعاصر، وأثرها في التربية العربية اليوم.
ولا يشترط أن تكون أهداف التربية العربية كما أرادها الشعر الإسلامي موافقة لأهدافنا التربوية المعاصرة، مادامت أهداف ومثل وطرائق كل أمة تتغير بتغير الحياة، وبتطور أهدافها ومثلها. إن "أهداف التربية العربية المعاصرة وإن اتفقت مع الأهداف العامة لكل تربية، فإنها تختص بأهداف تشاركها فيها جميع الأمم الآخذة بأسباب التقدم والنهوض. وهذه الأهداف التربوية متصلة أوثق الصلة بأهداف العرب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تنفصل عنها ولا تستطيع إلا أن تخدمها( ) ".
وقد حدد بعض الباحثين( ) في مجال التربية، الأهداف التربوية العربية المعاصرة بما يلي:
1 ـ التحرر الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والسياسي.
2 ـ التقدم العلمي.
3 ـ تنشئة المواطن الصالح.
4 ـ خدمة قوميتنا العربية دون تعصب أو شطط.
5 ـ العدالة الاجتماعية، والديمقراطية الصحيحة.
6 ـ تعليم المرأة( ) .
والصورة الإيجابية لهذه الأهداف واضحة، غير أنها تزداد وضوحاً حين نعرف نوعية المواطن الصالح الذي نسعى إلى تنشئته في التربية العربية المعاصرة. وقد كان هذا المواطن الصالح هدفاً رئيسياً للتربية العربية القديمة في أيام الإسلام الأولى، وفي أيام الدولة العربية.
إن الأمم تختلف في تصوّر هذا المواطن، كما تختلف في تحديد سماته وخصائصه. ولكن ما يجب أن تسعى التربية العربية إلى بنائه في هذا المواطن غير مستحيل أيضاً. إنه ذو عقل فكري متحرر وإدراك كلي واعٍ متفتح، متفان في عمله الموكل إليه، غير شَرِهٍ ولا باغٍ ساعٍ إلى خدمة الخير، لا يقبل ظلماً ولا حيفاً، كما لا يسكت عن حق ضائع، ولا ينزل سيفاً عن ظالم قاهر، يتمتع بسمات المحبة والإلفة لعيال الله كلهم، عارف ماله وما عليه، ليس ملاكاً كي لا يكون مستحيلاً توّاب إن أخطأ.
وقد تجاوزت التربية الإسلامية القديمة تنشئة المواطن الصالح، ولم تحصر نفسها في تربيته وإعداده فقط، لأنها تسعى إلى هدف أعم وأشمل، إنها تريد إعداد الإنسان لتكون الإنسانية كلها على تربية واحدة صالحة، واحدتها الإنسان الحق بجوهره الحق من حيث هو الإنسان.
من هنا كانت التربية الإسلامية تعتمد في طريقتها معالجة الإنسان كله معالجة شاملة دون إغفال شيء من الجوانب الروحية والوجدانية والعقلية والجسدية.
وقد سعى الإسلام أن يضع من مزيج طاقات الإنسان كائناً بشرياً ذا فعالية إيجابية. كما أدرك استعدادات الإنسان المتباينة الموجبة والسالبة، فلم يتركها كما تشاء كي لا يختل التوازن في الإنسان الذي يريده الله قوة متكاملة.
وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف لجأ الإسلام في تربيته إلى استخدام وسائل كثيرة أهمها: التربية بالقدوة وبالموعظة، وبالأمثال وبالترغيب والترهيب، وبالقصص. وقد كان لبعض الشعر التربوي في الإسلام شرف استخدام بعض تلك الوسائل التربوية التي يلقنها الشعراء أبناءهم.
وربما قيل: إن التربية ليست تلقيناً، وإنها ليست كذلك، ولكن التلقين أحياناً من وسائلها. إنها فن وعلم مشدودان بطرفين رئيسيين هما المربّي والمتربي.
والتربية أنواع، فهناك التربية الجسدية، والعقلية، والاجتماعية والأخلاقية، وتربية المثل العليا. وكون الحديث يدور حول الشعر التربوي، فإننا نتتبع أنواع التربية فيه، فنجد تربية عقلية، واجتماعية وأخلاقية وتربية على المثل العليا، وهو لا يخلو من تربية عسكرية كذلك.
ولما كان الغرض الأساسي من حديث التربية هنا هو الشعر العربي في الإسلام، لا التربية كما يريدها القرآن( ) ، فإنه لابد من الوقوف، على الشعر الذي قيل من عهد النبوة إلى عهد بني أمية، معلمين أننا لا نقصد بالتربية هنا المؤسسات التعليمية، أو الطرق الرئيسية بل المقصود بها العملية الصناعية الصعبة لأن "صناعة الإنسان ليست عملية عفوية سهلة، بل هي أشرف الصناعات وأصعبها، ودون أن تعرف أمم الأرض أو بمعرفتها، فإن صناعة الإنسان تؤثر على كل أنواع الصناعات تقدماً أو تخلفاً، خيراً أو شراً، ربحاً أو خسارة، أماناً، أو إجراماً( ) .
إن أهم ما يدور حوله هذا الشعر هو بناء الشخصية في الولد، وغرس الفضائل الرفيعة فيه كذلك.
بناء الشخصية كما جاء في الشعر التربوي الإسلامي:
التربية في الشعر التربوي خلقية أولاً، ولا غرابة فهي نابعة عن مصدر ديني، والدين أصل من أصول الأخلاق، وقد حوى هذا النوع من الشعر بياناً وأظهر كشفاً بالأصول الأخلاقية للسلوك الإنساني، كما يريدها هؤلاء الشعراء، وفيه بيان عن البواعث الخلقية، ونظر في الحكم الأخلاقي، وفي الغاية من الفعل الخلقي.
وحسب التعريف الأول للتربية والذي يقرّ بأنها علم معياري، تكون الأخلاق من العلوم المعيارية التي تبسط للناس مثلاً عليا ينبغي اتباعها وتختلف عما يكون عليه الإنسان في الواقع( ) .
ويعتبر المؤلفون الأدبيون سقراط هو أول من تكلم في علم الأخلاق كلاماً له قيمته، بل يعتبرونه واضع علم الأخلاق، حين أحس بتدهور الأخلاق، وحاول أن يكشف عن المبادئ العامة الخلقية المسلم بصحتها وانتهى إلى أن الفضيلة وليدة المعرفة أي أنها أمور يمكن تعليمها وتعلمها( ) .
هذا شيء عن الأخلاق في الشخصية "أما الشخصية فهي من الشخوص والظهور، ومرجع الصفات الخلقية في تكوينها يعود إلى المجتمع الذي جربه الشعراء ودروسوه، وجربوه، فصاروا يقدمون الآراء التربوية في المجال التجريبي لبناء الشخصية المحبوبة في المجتمع، المتكاملة في نموها الخلقي والجسدي، لتظهر إيجابية في تصرفاتها.
وقد كان غرض الشعراء التربوي ـ في أغلب قصائدهم ـ غرضاً منفصلاً عن غيره، قائماً بذاته تربوياً في أهدافه.
ومن خلال قصيدة للشاعر الإسلامي يزيد بن الحكم( ) الثقفي وهو يعظ ابنا له اسمه (بدر) نستطيع أن نقف على الأساليب التربوية التي يستخدمها الشعراء في تربية أبنائهم، كما نستخلص الأهداف التربوية التي يراد الوصول إليها في تربية الأولاد عشية ساد الإسلام في الربوع العربية وربما على أغلب العقول العربية!...
قال الشاعر يزيد بن الحكم:
يا بدر والأمثال نضربـ
ـها لذي اللب الحكيم
دم للخير بوده
ما خير ود