منتدى فريق جيني بوجدور التربية والتعليم |
|
| الإيجابية والسلبية في الشعر العربي بين الجاهلية والإسلام -تتمة2- | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أبوعمر Admin
عدد المساهمات : 81 تاريخ التسجيل : 16/12/2010 العمر : 46 الموقع : www.genieboujdour.123.st
| موضوع: الإيجابية والسلبية في الشعر العربي بين الجاهلية والإسلام -تتمة2- السبت 15 يناير 2011, 11:04 am | |
| لمناحي الفكريّة
في المناحي الفكرية: لم يكن للعرب في جاهليتهم فلسفة، أو علم كلام، أو تصوف. فقد جاء تأثر الفكر العربي بالفلسفة اليونانية، وبغيرها من الثقافات متأخراً، وربما كان انتشارها بعد الفتح مؤكداً. ويمكن حصر مناحيهم الفكرية، أو أغلب تلك المناحي، في معتقدهم الديني وأوهامهم وخرافاتهم، وهي – حين نجدّ في البحث عنها – كثيرة مبثوثة في الشعر الجاهلي، نستطيع أن نذكر منها: التطير والتشاؤم، وحديث الحض، وعقد الرقيّ،والاعتقاد بأثر الغربان والسخرية بالفقير( ) وهجوه!.، والتعيير، وهجاء العرض، والفحش، والإيمان بالغول، وخروج الهامة من القبر، والغيبة، والنميمة، وحلول الأرواح في مظاهر الطبيعة، والإيمان بالعين التي إذا أصابت قتلت، وحبس البلايا، ونسبة الشعر إلى الحيوانات، وإلى الجن والتعشير، والإيمان بأثر دماء الأشراف والملوك وعقد الرّتم. واعتقادهم في النيران، ووأد البنات. حين جاء الإسلام، كانت إحدى مهامه الرئيسية اقتلاع تلك المعاني التي تخالف تعاليمه، فعانى كثيراً وهو يحاول إرساء مهمته تلك. ولكن المعتقدات القديمة ما لبثت أن عادت إلى العقلية العربية، مما يفيد أنها كبتت إلى حين ولكنها لم تمت. ولاشك أن الدافع وراء عودتها، هو تبني بعض الشعراء تلك المعتقدات وسقيها بماء الحياة، الشيء الذي جعلها تعيش حتى أيامنا( ) هذه فتجمّدُ العقلية العربية وتشدها فتمنعها من النهوض والتقدم. ومن هنا تأتي أهمية استعراض تلك المعاني ورفضها لما فيها من سلبية في التفكير، وفيما يلي استعراض لأشهر تلك المعاني التي مازالت ماثلة كالطود في عقلية العرب، فتكون أحد أهم العوامل التي تحول دون تقدمهم. الطيرة والأوهام والخرافات: الطيرة هي التشاؤم، وهي مصدر تطير مثل تحيّر حيرة( ) ، وقال بعض أهل اللغة لم يجيء، من المصادر هكذا غير هاتين، ويقال تطيرت منه، واطيرت( ) . ويقال لها في العبرانية: طير( ) Tayyar فهي من الأصل نفسه الذي أخذ العرب التسمية( ) .منه ويرى بعض الباحثين أن الطيرة انتقلت إلى العبرانيين من العرب( ) ، ويقال لها في الإنكليزية Augary( ( والطيرة والزجر في معن واحد( ) . وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، ورأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم منه ورجع. وربما كان أحدهم يهيّج الطير ليطير فيعتمدها. فجاء الشرع بالنهي( ) عن ذلك. وكانوا يسمّون السانح والبارح، فالسانح ما وَلاَكَ ميامنة بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بأن يمر عن يمينك إلى يسارك. وكانوا يتيمنون بالسّانح، ويتشاءمون بالبارح( ) ، وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف يتعاطى ما ليس له أصل.
ولاشك أن للجغرافيا الطبيعية دوراً كبيراً في ولادة هذه القيم السلبية في المعتقدات الفكرية. فالملاحظ أن القوافل التجارية والموارد الاقتصادية والريح المنعشة كلها تأتي من الشمال أو اليسار، من بلاد الشام والعراق، فيكون التيّمن قادماً من جهة قدوم القوافل المحمّلة بالخيرات، ولعل هذا سرّ اختلافهم، بجهات التشاؤم والتيامن. وربما أكثر بعض الشعراء من النقل في طول البلاد وعرضها، داخل الجزيرة وخارجها فكسب واغتنى وعاد متخلصاً من السانح والبارح معبراً عن تحرره الفكري الذي أوصله إليه تحرره الاقتصادي، يقول عوف بن عطية( ) : نَؤُمُّ البلادَ لِحُبِّ اللقاء ولا نتّقي طائِراً حيثُ طَارَ( )
سَنَيْحاً ولا جارياً بارِحَاً على كُلِّ حال نُلاقِي يَسَارَ
ويبدو أن الوصول إلى النتائج الاقتصادية الإيجابية، والحصول على الخيرات الوفيرة يقوّيان معتقد المنكرين لهذه الأوهام. من هنا تظهر قيمة الشعر الإيجابي في محاربة هذا المفهوم السلبي، ومحاولة القضاء عليه. ومن طريف هذا الجانب ما روى عن النابغة( ) - وكان من المتطيرين – وزبّان بن سيار( ) ، فقد خرجا يريدان الغزو، فبينما هما يريدان ( ) الرحلة إذ نظر النابغة وإذا على ثوبه جرادة تجرد ذات ألوان، فتطيّر وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجهَ.. فلما رجع (زبان) من تلك الغزوة سالماً. أنشأ يذكر شأن النابغة، فقال( ) : تخبّر طيرَه فيهَا زِيَادٌ لِتُخْبِرَهُ وما فِيْهَا خَبَيْرُ
أَقَامَ كأنّ لقمان بنَ عادٍ أَشَارَ له بِحِكْمَتِه مُشِيْرُ
تعلّم أنّه لا طَيْرَ إلاّ على مُتَطَيّر وهو الثّبور
بلى شيءٌ يُوَافِقُ بعضَ شيءٍ أَحَايَيناً وبَاطِلُه كَثِيرُ( )
وقد كانت تلك الرؤية أعمق من رؤية أخرى لذات القضية، التي علّقها كثير من الشعراء بالغيب، كما في قول بعضهم( ) ممن اعتبره شُرّاح( ) الحديث إيجابياً، وهو عندنا وعي قاصر: الزّجْرُ والطّيْرُ والكهّانُ كلّهّم مُضَللونَ وَدوْنَ الْغَيْبِ أَقْفَالُ
وعلى الدرجة ذاتها من المستوى المفهومي يسدل شاعر آخر ستائره على هذا المفهوم معلقاً إياه بالغيب: لَعَمْرُكَ ما تَدْرِي الطّوارِقُ بالْحَصى ولا زَاجراتُ الطّير ما اللهُ صَانِعُ( )
ومع ذلك فهذا التحليل إيجابي بالنسبة لذلك العصر، وللعصور الإسلامية التي تلته، ولكنها رؤية قاصرة بالنسبة لعصرنا، سيما بعد الكشف عن دور الاقتصاد، في حياة الإنسان. مؤمنين بأن نصيب الناس من خير أو شر أمر لا يأتي من خارج أنفسهم، وإنما هو معهم مرتبط بنواياهم وبقدراتهم، وإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه. لكن هذا كله حديث آخر غير الحديث الاجتماعي الاقتصادي. وقد كان كثير من الجاهليين يربطون رزقهم ومصير حياتهم بهذا المعتقد. تحدث رجل( ) عن لعبة السانح والبارح في مصير الإنسان، وقد قالوا له: أغارت بهراء على إبلك فَأَسْحَفَتْهَا، قال: فأمسيت والله مالي مال غير الدّود فرمى الله في نواحيهن بالرَّغس( ) ، وإني اليوم لأكثر بني القين مالاً، وفي ذلك أقول( ) : هو الدَّهْرُ آسٍ تارةً ثم جَارِحُ سوانحُهُ مَبْثُوْثَةٌ والبَوَارِحُ
ولعلَّ قولَ مصادٍ هذا يقوي ما رأيناه من ارتباط هذا المعتقد الفكري بالمناحي الاقتصادية. وقد اختلط أمر تشاؤمهم، واعتقد بعض الأدباء( ) من القدامى أن تشاؤمهم من الغراب جعلهم يشتقون من اسمه الغربة والاغتراب، والغريب، فوقع اللبس لغوياً كما وقع اللبس اقتصادياً. ويبدو أن مفهوم التطير بقي قوياً ومنتشراً بين العرب جميعاً بما فيهم أهل المدن الذين يفترض فيهم تجاوز مثل تلك الأوهام. وجاء الإسلام فكان الجاهليون يعمدون إلى هذا الوهم في مقاومة الحجة والمنطق، فكانوا يقولون كما جاء القرآن بلسانهم: إنا تطيّرنا بكم، لئن لم تنتهوا لنرجمنّكم، وليمسّنكم منا عذاب أليم( ) . كما اعتبر الطيرة شركاً يؤدي بصاحبه إلى الكفر الصراح، فقال الرسول: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك (ثلاثاً) وما منّا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكّل( ) ". وعلى النقيض من الطيرة( ) ، يقع الفأل الذي بينه وبين الطيرة فرقان عند أهل النظر والمعرفة والحقائق، ذلك أن الفأل تقوية للعزيمة، وتحضيض على البغية، وإطْمَاعٌ في النيّة، والطّيرة تكسر النيّة، وتصد عن الوجهة وتثني العزيمة، وفي ذلك ما يعطّل الإحالة على المقادير( ) .
ومن هذا الفأل تسمية العرب للمنهوش بالسليم، وللبرية بالمفازة، وتكنيتهم الأعمى بأبي بصير، والأسود بأبي البيضاء( ) . وإيمانهم بباب الطيرة يدل على ضعف في "التسبيب" العقلي الذي كان عندهم، كما أنه يدل على عدم قدرتهم ربط المسببات بأسبابها ربطاً محكماً، ويدل كذلك على أنهم لم يكونوا يفهمون الارتباط بين العلة والمعلول. وكانوا لا يتعمقون في بحث الأشياء، إنما كانوا ينظرون إليها نظراً عارضاً أو خاطفاً، يقفون عند الجزئيات، ولا يتعلقون بمدركات كلية "أو نظرات شاملة، وكل ذلك لا يوجد ضمن دائرة الحياة الحركية بعلمها كما هو الشأن في منظورنا المعاصر ومن هنا تكون أهمية تلك المفاهيم لأنها تكشف لنا عن قصور الوعي، كما تكشف لنا صورته عن الحياة الفطرية الساذجة عند العرب عصرئذ( ) . وإذا كانت بعض هذه الأشعار التي تنفي الطّيرة أو تقول بها قد فضحت لنا ذلك المفهوم الفكري السلبي، فإنه من الواجب أن نؤكّد على فريق من العرب الذين لم يكونوا يؤمنون بالطيرة أو يعتقدون بها. وقد كان خزز بن لوذان السندوسي( ) في طليعة من ينكر الطيرة، وينسب إليه قوله( ) :
لا يمنعنّكَ من بُغا ءِ الخَيْرِ تَعْقَادُ التّمَائِمْ
وَلَقَدْ غَدَوْتُ وكنْتُ لا أَغْدُو على واق وَحَاتِمْ
فإذا الأَشَائِمُ كالأَيَا مِنْ والأَيامِنُ كالأَشَائِمْ
وكَذلك لا خَيْرَ ولا شرَّ على أحدٍ بِدَائِمْ
قد خُطَّ ذلك في الزّبُو رِ الأوّليّات الْقَدَائِمْ
ولاشكّ أن هذا المفهوم الذي طرحته القصيدة يملك الأصالة الفكرية والمعاصرة، وأنّه مبني على نظرة دينيّة كما أشار الشاعر ذاته إلى ذلك في بيته الأخير. الغيلان والسعلاة( ) ، ومزاعم أخرى: هناك أوهام أخرى وخرافات يعكسها الشعر السلبي تعتبر مأخذا سلبياً على الفكر العربي حتى المنظور المعاصر، إذ يطلعنا على نماذج أخرى من المعتقدات الجاهلية التي كانت تتحكم في حياة العرب، كما أن الوجه الإيجابي فيها، كشفها عن جذور كثير من المعتقدات التي ما زالت تعيش في حياة العرب حتى أيامنا هذه، فمعرفتها أمر مساعد للتخلص منها، وهي من جهة أخرى تعبر عن العقلية السامية التي لا تتخلى عن معتقد آمنت به مهما طال أبده، وتغير زمنه، وهي بهذا الشكل إنذار لنا لنتخلى عن هذا الجمود الذي ران على قلوبنا. والملاحظ أن هذه المعتقدات كثيرة، يهمنا أن نقف على الحي الباقي منها. الغول من السّعال وجمعها غيلان، وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول، والغضب غول الحلم لأنه يغتاله ويذهب( ) به. هذا هو أصل المسألة القصة في (الغول) لكن المعنى اللغوي المجرد انقلب إلى صورة مادية حسية، فكانوا يزعمون أنه يعرض لهم في بعض الأوقات والطرق، فيغتال الناس، وأنه ضرب من الشياطين، حتى صار الشعراء يكثرون في وصف لقائها، فمنهم من يراها مرافقة له في القفار، ومنهم من يغالي فيزعم قتلها. وأصل( ) هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملت فيهم الوحشة( ) . ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد عن الأنس، استوحش ولا سيما مع قلة الاشغال والمذاكرين. فقد ضل عبيد بن أيوب جوالاً في مجهول الأرض، فلما اشتد خوفه، وطال تردده، وأبعد، قال: فلله درُّ الغول أيُّ رفيقةٍ لصاحب قفرٍ خائف متقتّرُ
أرنّت بلحنٍ بَعْدَ لَحْنٍ وأوقدتُ حواليّ نيراناً تلوح وتُزْهِرُ( )
واستدلال الجاحظ بهذا الذي سماه عبيد بن أيوب، يدل على أن الفكرة، وَهْمٌ يختلقها خيال الخائف المقفر، يجسدها عقله من ظلال الاحجار في القفار أو من ظلال النّيران الموقدة. كذلك زعم الشاعر الجاهلي تأبط( ) شراً ذات مرة أنه لقي الغول في ليلة مظلمة، ومازال بها حتى قتلها، وقال( ) : فلم أنفكُّ مُتَّكِئَاً عَلَيْهَا لأنظرَ مُصْبَحاً ماذا أَتَاني؟
إذا عينانِ في رأسٍ قَبيْحٍ كَرَأْسِ الْهَرّ مَشْقُوْقُ اللْسَانِ
ورجلا مخدج ولسان كَلْبٍ وَجِلْدٍ من قُرَابٍ أو شنَانِ( )
وهذا زعم باطل، والأبيات إمّا أن تكون منحوله لتخدم اللغويين وإما أنه كاذب فيما ذهب إليه، وقد قصد ادعاء البطولة. وحين جاء الإسلام نفى الغول المجسد مادياً في الصور المتعددة التي جسدها خيال الشعراء على لسان الرسول وهو يستعرض بعضاً من معتقدات الجاهليين، فيبطل العدوى، ويبطل اعتقاد الشر في شهر صفر، وينبغي وجود الغول، فيقول: "لا عدوى، ولا صفر، ولا غولٌ( ) . ولا أريد أن أتجاوز هذا المفهوم إلى غيره قبل الأداء بالحقيقة المؤلمة التي تشير إلى إيمان كثير من العرب المعاصرين بالآثار السيئة التي يخلفها شهر صفر – كما يزعمون أو بالغول وحديثها الذي مازال يأخذ دوره في ليالي الشتاء على موائد المواقد في قرى الجزيرة والفرات. ومن مزاعم العرب الأخرى حية في البطن تصيب الإنسان إذا جاع وتؤذيه وأنها تعدي، فأبطله الإسلام. وهذا زعم باطل، ولعلهم اعتقدوا ديدان البطن التي تخرج من الإنسان أحياناً نوعاً من الحيات خاص بالبطن فيكون القصور وعياً في الطب. كذلك هناك حديث في الاعتقاد حول ما يسمى بهامة القبر، والهامة عند بعضهم اسم طير( ) . وكانوا يقولون: ليس أحد يموت فيدفن إلا خرج من قبره هامة. ومعنى هذا الزعم الذي يبررون فيه أخذ الثأر والقتل، أن الإنسان إذا قتل، ولم يطلب بثأره خرج من رأسه طائر يسمى الهامة، ويظل يصيح على قبره: اسقوني!.. إلى أن يطلب بثأره. والناتج السلبي في هذا المعتقد التقاؤه مع شعر التحريض من جهة، والقصور في لاوعي من جهة أخرى، وقد كان قاسماً مشتركاً، وإنذاراً للقتال كما في قول ذي الأصبع العدواني( ) : يا عمرو إلاّ تدع شتمي ومنقصتي أضربك حتى تقول الهامة: اسقوني
وحديث الحيوانات وشعرها لون آخر من ألوان الخرافة العربية في الجاهلية. فشعر نسبوه إلى الحيوانات، وآخر إلى الجن فيه معان سلبية. فقد نسبوا شعراً للضب قاله حين خاصم ضفدعاً في الظمأ، أيهما أصبر، وكان للضفدع ذنب،وكان الضب ممسوحاً( ) . فلما غلب الضب أخذ ذنبها، فخرجا في الكلأ فصبرت الضفدع يوماً ويوماً، فنادت: يا ضب، وردا وردا، فقال الضبُّ: أصبح قلبي صردا لا يشتهي أن يردا( )
إلا عرادا عردا وصليانا بردا( )
فلما كان في اليوم الثالث نادت الضفدع ياضب، ورداد وردا!. قال: فلما لم يجبها بادرت إلى الماء، ثم تبعها الضب، فأخذ ذنبها( ) . ونستطيع اعتبار هذه الخرافة نوعاً من أنواع (الفابولا) العربية على الرغم من زعم بعض المستشرقين أنها اتخذت من بلاد الاغريق موطناً لها( ) . وهذا الشعر بالمنظور المعاصر نوع من التعاليل التي قالها الأقدمون يبحثون فيه عن علل الأشياء في مظاهر الحياة. ويرى علماء الأساطير الطبيعيون، وعلماء الأساطير الفلكيون في الحكاية الخرافية محاكاة للظواهر الطبيعية أو الجوية( ) . وحديث الضب موجود عند كثير من الشعوب، فأهل أمريكا الجنوبية يزعمون أن الإنسان سرق النوم من الضب الذي ينام دائماً( ) . كما أن وجها معاصراً إيجابياً نلمحه في هذا الشعر، فمجموعه الدائر حول الخرافات، يعمق الإحساس بفكرة وجود الخرافات العربية التي لا ترجع إلى أصول هندية أو بوذية، أو فارسية. وفي الوقت الذي "لا نستطيع أن نتعرف على أثر أية حكاية خرافية هندية في أوربا قبل القرن الثاني عشر( ) "، نستطيع أن نقول: إن العرب عرفوا الحكاية الخرافية قبلهم( ) ، عرفوها مبتدعين، لا ناقلين فحسب. وهذا فيما نرى وجه إيجابي ناصع لمثل ذلك الشعر الجاهلي الذي يعلل بعض ظواهر الطبيعة من جهة، ويكون أساساً من أسس أدب الأطفال. وليس أدل على ذلك من قصة تباري الضفدع مع الضب في الصبر على الظمأ، ففيها تعليل لظاهرة الذنب في الضب، ودليل على بواكير أدب الأطفال عند العرب. لكن حديث خرافة الحيوانات ليس وحيداً، فهناك خرافات أخرى حول البشر. أي نوع من البشر؟.. إنهم الملوك، والأشراف! والحديث يتناول دمائهم التي تشفي من عضة الكلب الكلب، وتشفي من الجنون وهذه نظرية تقدس الملوك والأشراف، وتزعم أنهم مخلوقون من مادة أخرى، والدم الذي يجري في عروقهم غير دماء المملوكين فهم الملوك، دمهم دواء يراه فحول الأطباء فيقفون منه موقف المستسلم كما في قول الشاعر الجاهلي عاصم بن القرية( ) : وَدَاوَيْتُه مِمّا بِهِ من جِنَّةٍ دمَ ابن كهّال والنِّطَاسُ واقفُ( )
وقلّدته دهراً تميمةَ جدّه وليسَ لشيءٍ كادَه الله صاَرِفُ
وهذا مفهوم صنعه الملوك والأشراف، يهدف إلى إخضاع الجماهير والتسليم بما للملوك والأشراف من حق إلهي مزعوم في التحكم والحكم. كما يهدف إلى حفظ دمائهم أن تهدر، مادامت بلسماً شافياً من مرضين يهابهما العرب، الجنون الذي يخشون التعاير به، حيث يكون المجنون الواحد من القبيلة مجالاً كبيراً لانتقاص قيمتها وهجائها والكلب الذي ينتشر بسرعة بين كلابهم التي لا تفارق موائدهم، ولا دوابهم حرّاساً أمناء. وقد كان من المفترض على الشعراء أن يكشفوا زيف هذا المعتقد والهدف الأخير الذي يسعى إليه مشيعوه. وفيما بعد اصطدم الجاحظ بهذا المفهوم ولم يقبله، ولكنه ذهب إلى تعليل الدم الكريم بالثأر الملمّ( ) ، بمعنى أنه لا يشفي مجنون الحي من آلامه على قتلاه إلا معركة يقتل فيها ملوك القوم وأشرافهم ثأراً لقتلى من به جنّة، فيشفى. كذلك إذا كلب من الغيض والغضب فأدرك ثأره، فذلك هو الشفاء من الكلب، وليس أن هناك دماً يشربه. والأرواح عند الجاهليين تحل في مظاهر الطبيعة المحيطة بهم ويأتي عداء بينها وبين حيواناتهم... فإذا أوردوا البقر، فلم تشرب إمّا لكدر الماء أو لقلة العطش، ضربوا الثور ليقتحم الماء، لأن البقر تتبعه، فكانوا إذا امتنعت ظنوا ذلك من عمل الجن، وإيحائهم( ) . وفي حديث للأعشى ما يدل أن الشعراء عرفوا أصل الحكاية بوعي، فقال في ورد البقر الماء: وَمَا ذَنْبُه إن عافتِ الماءَ باقِرٌ وما أَنْ تَعَافَ الماءَ إلاّ لِتَضْرِبَا( )
وقد أدرك الجاحظ في كلامه السابق هذا المعنى فأتم الأَمْرَ. ومن الملاحظ أن هذا المعتقد ما زال موجوداً في قرى الجزيرة والفرات من بلاد الشام، وإن استبدلت بالبقر الأغنام. وهناك أمور جاهلية أخرى مازال بعض العرب في أيّامنا يؤمنون بها. فقد كان الجاهليون يؤمنون بالعين التي إذا أصابت قتلت، وهم يقولون عن المصاب بالعين رجل تعيّن، إذا أخذ بالعين. ويقولون: أن العين تسرع بالإبل، أي تذهب بها. والتعشير، مزعم ومعتقد واهٍ عند العرب في الجاهلية، مفاده أن الرجل فيهم إذا أراد دخول قرية يخاف وباء فيها، وقف على بابها فعشّر، وهو أن ينهق كما ينهق الحمار، فإذا دخلها لم يصبه وباؤها( ) ، كما في قول عروة بن الورد( ) : لَعَمْرِي لَئِنْ عشّرت من خشية الردى نهاق الحمير إنني لجزوع
ومن أهم تلك المفاهيم السلبية ذات الآثار المادية السيئة نكاح المقت وحبس البلايا. وأما نكاح المقت فهو أن يأتي أكبر أولاد الميت، فيلقي ثوبه على امرأة أبيه بعد وفاته، فيرث نكاحها( ) ، فإن لم يكن له فيها حاجة تزوجها بعض أخوته بمهر جديد، فكانوا يرثون نكاح النساء كما يرثون المال، وكان هذا شأنهم حتى نزلت الآية الكريمة، "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضُلُوهن( ) "، ثم فصّح القرآن وحرم فقال: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة وساء سبيلا". وكون المرأة متاع يورث، أمر قائم في كثير من الحضارات القديمة، فهي في بلاد اليونان من جملة مقتنيات الرجل تنتقل بعد وفاته لمن يريد، وما عليها إلا الطاعة. ولم يكن هذا الأمر مقصوراً على زوجه، بل كان معمماً على ابنته( ) . ومع اعتراف المجتمع الجاهلي بوجود هذا الزواج إلاّ أنه كان مقيتاً، ويعيّر به أهله، ولذا سمّي بزواج المقت( ) ، وكان الشعراء اتخذوا منه مواقف إيجابية فأنكره أوس بن حجر التميمي، في هجائه لبني قيس: والفارسيّة فيهم غَيْرُ مُنْكَرَةٍ فكلّهم لأبيه ضَيْزَن سلف( )
ويبدو أن الدافع الأساسي والمنطلق الرئيسي في هذا الزواج هو الاحتفاظ بميراثها لأهل المتوفى من الذكور( ) . وحبس البلايا مرتبط بالموت، فإذا مات الرجل منهم، كانوا يشدون ناقته إلى قبره، ويعكسون رأسها إلى ذيلها، ويغطون رأسها بوليّة (وهي البردعة)، فإن أفلتت، لم تُرَدُّ عن ماء ولا مرعى، ويزعمون أنهم إنما يفعلون ذلك ليركبها صاحبها في المعاد ليحشر عليها، فلا يحتاج أن يمشي. ويجب إن نعرف القيمة العصرية لمثل هذا الشعر، فهو وإن يكن دالاً على سلبية في المفاهيم: إلا أنّه أرّخ لنا تاريخاً فنياً حياة العرب الفكرية في الجاهلية لدرجة أنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة في يوميات الإنسان العربي إلا سجلها. ثم إن الحديث عن هذه المعتقدات والخرافات، والتقاليد والعادات يشكل جسراً بين المناحي الفكرية، والمناحي الاجتماعية، فالأمة لها عاداتها وتقاليدها الاجتماعية الخاصة التي يوحي بها إيمان راسخ في نَفْعِ أو ضرّ تلك العادات، وتلك التقاليد. وهناك معتقدات فكرية خاصة تفضح كثيراً من سلبيات الجاهليين وتقدم لنا صورة عن وعيهم الاجتماعي والعقلي، فيكون الشعر الذي يكشفها قد قدم نفسه إيجابياً مسفراً عن وجه حقائق قاصرة. وعقد الرتم( ) ، صورة من صور تلك المفاهيم، وهو أن يعمد الجاهلي النّاوي على السفر إلا رتم فيعقده، فإن رجع ورآه معقوداً، زعم أن امرأته لم تخنه، وإن رآه محلولاً زعم أنها قد خانته، وقد أدرك بعض شعراء الجاهلية فساد هذا المعتقد، وسلط الأضواء على الحقيقة القائمة بعيداً عن الاغترار بالحلف وبعقد الرتم، فقال( ) : خَانَتْهُ لمّا رأت شَيْباً بمفرقه وَغَرَّهُ حَلْفُها والعقُد للرَّتَمِ
وهذا من المفاهيم التي مازالت سائدة في قرى الجزيرة والفرات، حيث يعمد المسافر إلى شجرة فيشد غصنين منها!.. وشاعر آخر وضع يده على الحقيقة الحافظة للمرأة حيث يكون المرء مقياس الأفكار والمعتقدات، فقال: إذا لم تَكُن حاجَاتُنا في نفوسِكم فليس بمغنٍ عَنْك عقدُ الرّتَائِم( )
ويبقى هذا الشعر ظلاً لحقيقة يشير إليها البيتان السابقان، تتمثل في معنى انتشار ظاهرة الخيانة الزوجية، وتستند على علاقات الشك التي تدفع الرجل إلى اتخاذ مظاهر الطبيعة الثابتة أو المتحولة دليلاً قطعياً يقيه شر الظن، ويضعه على قاعدة من اليقين، حيث يخبره مظهرها عن حقيقة ما جرى في غيابه!... كما يشير هذا المفهوم إلى ظاهرة البغاء الذي لم يكن محموداً عند العرب وهو كذلك دليل على سبب مقت العرب للمرأة في الجاهلية خيفة العار.وهذا ينفي ادعاء بعض الباحثين من أن العرب لم يعتبروا البغاء عيباً( ) ، بل اعتبروه من إمارات الرجولة. فقد ضرب بعض النساء الحرائر أروع أمثلة الوفاء للعهود الزوجية خلال التاريخ( ) . بالإضافة إلى كل ما تقدم هناك مجموعة من المواقف الاجتماعية التي اتخذها الشعراء من المفاهيم السلبية التي كانت سائدة ديار العرب في الجاهلية. وما زال الشعر يخدمنا في كشف هذه المفاهيم السلبية المعتقدات الفكرية الوهمية بما فيها من سلبيات كانت خاضعة للظروف التاريخية التي مرت على الجزيرة العربية قبل الإسلام. ويمكن للباحث أن يلاحظ ترابطاً بين شتى المناحي الاقتصادية والاجتماعية، والفكرية في الحياة العربية القديمة. وأما الطبيعة الجماعية لهذه المناحي فواضحة. تتجلى بطبيعة الحياة العربية في بيئة صحراوية متشابهة. ويكون من الواضح أن هذه البيئة قادرة على ولادة مفاهيم وهمية متشابهة في هذه الصحراء الضارية. فيكون الوجود سيداً في المجموعات والمفاهيم التي تظهر لنا متناقضة في حين يجمعها خيط مشترك. ولنتسائل عن العلاقة بين انحباس الأمطار والسيول المندفعة من البطاح والنار التي توقد للاستمطار! إنها بلا شك محاولة الحفاظ على هذا الوجود. فمن هذه المفاهيم التي كانوا يؤمنون بها معتقدهم في النيران. وقد خلدها شعر المقطعات فدل على عقلية قاصرة، وكان سجلاً خالداً بدقيق المفاهيم والأفكار التي كانوا يؤمنون بها. ويبقى هذا الشعر إيجابياً لعقلية سلبية قاصرة فقد قرنت النيران بأحداث حياتها، فهناك نار الاستمطار التي يلجأون إليها إذا احتبس( ) المطر، ثم يصعدون بها في الجبال الوعرة ويشعلون فيها النار، زاعمين أن ذلك سبب للمطر. كما في قول أمية بن أبي الصلت( ) : سلعٌ ما، ومثله عَشَرٌ ما عائلٌ ما، وَعَالَتِ البِقْوَارُ
وهناك نار الحلف التي يوقدونها، ويعقدون حلفهم عندها، ويذكرون منافعها ويدعون بالحرمان والمنع على ناقض العهد، قال( ) أبو هلال العسكري: وإنما كانوا يخصون النار بذلك دون غيرها من المنافع لأن منفعتها تختص بالإنسان لا يشركه فيها شيء من الحيوان. قال أوس بن حجر( ) : إذا اسْتَقْبَلته الشّمْسُ صدّ بوجههِ كما صدَّ عن نّارِ المهوِّل حَالِفُ
وهناك مفهوم إيجابي تقدمه النار وذلك حين توقد لفضح من يغدر من العرب. فإذا غدر الرجل بجاره أوقدت له نار بمعنى أيام الحج على الأخشب( )، ثم صاحوا هذه غدرة فلان. قالت امرأة من هاشم: فَإن نَهْلِكْ فَلَمْ نعرف عُقُوقا وَلَمْ تُوْقَد لَنَا بالْغَدْرِ نارُ( )
ولكن بعض الباحثين نظر في آخر هذه النار بمنظور المعاصرة، فرفض أن تكون النار والفعل حقيقة، وحمل الأمر على المجاز، مدّعياً أنه لا يجد عليه الدليل في مراجع التاريخ والأدب، ورفض أن يُشْرح قول الحادرة الشاعر الجاهلي: اسمّى وَيْحَك هل سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ رُفعَ اللواء لَنَا بها في مَجْمَعِ
على الحقيقة التي أخذ بها بعض الشراح القدماء القائلين "وكانوا في الجاهلية إذا غدر الرجل رفعوا له بسوق عكاظ لواء ليعرّقه. الناس "وحاول الباحث في شرحه أن يذهب إلى تأكيد المجاز ناسباً إباه لشرّاحٍ آخرين لكنّه لم يذكرهم مع الأسف، وبقى قوله عاجزاً عن إقناع القارئ( ) . ولاشك أن النظرة العصرية لا تر هذه النار هي التي حملت الشارح الحديث على اعتبار ذكرها من المجاز. وقد لجأ الجاحظ في حيوانه( ) إلى تعليل معظم خرافاتهم، وأوهامهم وحاربهم بالنفي. وتوسع فقيه الأندلس ابن حزم( ) في تعليله الظواهر ومحاربته الأوهام والخرافات التي صارت إلى الإسلام، فاعتقدها الناس من الدين وما هي منه بشيء حتى زعم قوم أنّ الفلك والنجوم تعقل، وأنها ترى وتسمع.. وهذا دعوى بلا برهان، وصحة الحكم بأن النجوم لا تعقل أصلاً( ) ..." وذكر حديثاً مطولاً عن منابع الأنهار، وأن اليهود وبعض العامة يزعمون أن أنهار النيل، وجيحان، ودجلة والفرات تخرج من الجنة، وتسقي جميع المعمور. وقد ورد هذه المزاعم ورفضها مبيناً منابع هذه الأنهار. وهكذا يكون حديث الخرافات في الجاهلية أساساً آخر يضاف إلى مجموعة الأسس التي دخلت الدين الإسلامي واستمرت فيه، ثم أصبح جزء منها على رفوف الصحاح معتقداً، كما في حديث الدجّال حين جمعَ نداءٌ أمرَ به رسولُ اللهِ الناسَ، ثم قال: "أتدرون لما جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم"، قال: إني والله ما جمعتكم رغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أَقْرُب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أَهْلَبُ، كثير الشعر، لا يدرون ما قُبُله من دُبَره، فقالوا ويلك، ما أنت، قالت؟ أنا الجساسة قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم، انطلقوا إلى هذا الرجل الذي في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لما سمّت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت قال: قد قدرتم على خبري فأخبروني: ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهراً، ثم أَرْفَأْنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقرُبِهَا( ) فدخلنا الجزيرة، فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر، لا ندري ما قبله من دبره من كثيرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجسّاسَة( ) ، قلنا: وما الجسَّاسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل الذي في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعاً، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة فقال: أخبروني عن نخل بيسان( ) ، قلنا: عن أي شأنها تستخبر، قال: أسألكم عن نخلها لعل يثمر؟ قلنا له: نعم قال: أَمَا إنَّه يوشك أن لا تثمر، قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن مائها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زُغر، قالوا: عن أي شأنها تستخب؟ قال: هل في العين ماء وهل يزرع أهلها بماء العين، قلنا له نعم، هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبيّ الأميّين، ما فعل؟ قالوا خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه، أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني، أنا المسيح( ) وإني أوشك أن يؤذن ليّ في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها، في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أردت أن أدخل واحدة، أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده السيف مصلتا يصدني عنها، وأن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها( ) ...". ولاشك أن الحديث غير صحيح بالرغم من وجوده في الصحاح، لا نرى فيه إلا نفس الخرافة السلبية الأوهام انتقلت من حديث العامة إلى كتب الأحاديث النبوية على أنها حديث صحيح!... وهي في واقع الحال موجودة في كتب الأدب في باب قول الجن الشعر على ألسنة العرب( ) . ففي خبر للعلاء بن ميمون الآمدي يرويه عن أبيه، قال: ركبت بحر الخزر أريد ناجورا، حتى إذا ما كنت غير بعيد لجج مركبنا فساقته ريح الشمال شهراً في اللجة، ثم، انحرف بنا، فوقعت أنا ورجل من قريش إلى جزيرة في البحر ليس فيها أنيس، وإذا فيها شجر طوال وطيور منكرة فجعلنا نطوف، ونطمع في النجاة، فبينا نحن كذلك إذا أشرفنا على غار بعيد يخرج منه دخان، وإذا بشيخ مستند إلى شجرة عظيمة فلما رآنا تحشحش تحشحشا( ) ، وأناف( ) إلينا، ففزعنا منه فزعاً شديداً ثم دنونا منه، وقلت: السلام عليك أيها الشيخ. قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فآنسنا به، وقعدنا بجنبه، فقال: ما خطبكما وما شأنكما؟. فأخبرناه أنّا من ولد آدم، فضحك، وقال: ما وطئ هذا المكان أحد من ولد آدم قط، فمن أنتما؟ قلنا: من العرب! قال: بأبي وأمي العرب، فمن أيها؟ قلت: أما أنا فرجل من خزاعة، وأما صاحبي فمن قريش، قال: بأبي وأمي قريش وأحمدها! ثم قال: يا أخا خزاعة، هل تدري من القائل( ) : كَأن لم يكن بَيْنَ الحجُون إلى الصّفا أَنَيْس ولم يَسْمُر بمكَّةَ سَامرُ
بلى، نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا صروفُ اللّيالِي والجدُودُ الْعَوَّاثِرُ
قلت: نعم، ذلك الحارث بن مضاض الجرهمي. قال: ذلك مؤدّيها وأنا قائلها في الحرب التي كانت بينكم معشر خزاعة وبين جرهم. يا أخا قريش، أولد عبد المطالب بن هاشم؟ قال: قلت أين يذهب بك رحمك الله؟ نعم، ومات مذ دهر طويل، فارتاع وقال: أرى زماننا قد قارب آبّانه، أفولد ابنه عبد الله؟ قلنا: وأين يذهب بك؟ إنك لتسألنا مسألة من كان في الموتى ثم بعث.
قال: فتزايد ثم قال: فابنه محمد الهادي؟ قلت هيهات!... مات رسول الله منذ أربعين سنة. قال: فشهق حتى ظننا أن نفسه قد خرجت، وانخفض حتى صار كالفرخ يرتعد، وأنشأ يقول: ولربّ راجٍ حِيْلَ دَوْنَ رَجَائِه وَمُؤَمّل ذَهَبَتْ بِهِ الآَمالُ
ثم جعل ينوح ويبكي حتى بل دمعه لحيته، فبكينا لبكائه. ثم قال: ويحكما، ممن ولى الأمر بعده؟ قلنا: أبو بكر الصديق، وهو رجل من خير أصحابه، قال: ثم من؟ قلنا: عمر بن الخطاب. قال: أفمن قومه؟ قلنا: نعم. قال: أَمَا إن العرب لا تزال بخير ما فعلت ذلك. قلنا: أيها الشيخ، قد سألتنا فأخبرناك، فنسألك بالله إلا أخبرتنا من أنت؟ وما شأنك؟ قال: أنا السفاح بن الرقراق الجنيّي، لم أزل، مؤمناً بالله ومصدقاً برسوله، وكنت قرأت التّورَاة والإنْجِيْل، وكنت أرجو أن أرى محمداً ، فلما تفرقت الجن، وتطلقت الطوالق المقيدة من وقت سليمان عليه السلام أخبأت نفسي في هذه الجزيرة لعبادة الله تعالى وتوحيده وانتظار نبيه محمد ، وآليت على نفسي أن لا أبرح هنا حتى أسمع بخروجه، ولقد تقاصرت أعمار الآدميين وإنما صرت إلى هذه الجزيرة منذ أربعمائة عام، وعبد مناف إذ ذلك غلام يَفَعَة، ما ظننت أنه ولد له، وذلك أنا نجده في علم الأحداث ولا يعلم الآجال إلا الله تعالى. والخير بيده، وأما أنتما أيها الرجلان فبينكما وبين الآدميين من الغامر مسيرة أكثر من سنة، ولكن خذا هذا العمود، وأخرج عموداً من تحت رجله، فاكتفلا به كالدابة إذا نام الناس، فإنه يؤديكما إلى بلدكما، وأقرئا قبر نبيكما السلام، فإني طامع بجوار قبره. قال: ففعلنا ما أمرنا به فأصبحنا في مصلى آمد. لقد أخذنا هذا النص على طوله لنقارنه بالحديث الذي يزعم المحدّثون صحته، ولنرى مدى الخطر الذي أدخلته الأوهام الفكرية على الدين الإسلامي. بالمركب الذي أبحر شهراً واحد في الحديث المزعوم، وفي الرواية القصصية، والشيخ المستند إلى شجرة عظيمة في القصة الطريفة، إنسان عظيم مجموعة يداه إلى عنقه، وهو يسألهم وهم يجيبونه، ويلاحظ تركيز الأسئلة حول شخص الرسول وظهوره، في الخبرين مع طول الخبر الثاني. في نهاية حديثنا عن السلبي في شعر الخرافات، من خلال استعراض بعض المفاهيم الفكرية التي عرضت بقالب خرافي، نشير إلى النتيجة التي تعتمد التغليب في مذهب السلبية، حيث كان لكل مفهوم منظوران، واحد سلبي والآخر إيجابي، بحسب المنطوق العصير، ويبقى التغليب السلبي هو الدافع نراه حصر هذه المفاهيم في هذا الفصل. المناحي الاقتصادية
لاشك أن الأساس الذي قامت عليه نظرية الكرم الجاهلي، وإحلاله منزلته العالية في قائمة الفضائل والقيم العربية، هو أساس اقتصادي. كما أن هذا الجانب الاقتصادي هو أحد العوامل التي دعمت نظرية الشك في كثير من الشعر الجاهلي عند طه حسين، الذي كان يرى أن الشعر الجاهلي يمثل لنا العرب أجواداً كراماً مهينين للأموال مسرفين في ازدرائها( ) ويعترض على هذا الجود والكرم من خلال تلمّس الحياة الجاهليّة في القرآن لا في الأدب الجاهلي. ولمّا كان القرآن( ) يلح في ذم البخل ويلح في ذم الطمع، فقد اعتبر البخل والطمع من آفات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجاهلية. وإذا كنا نرى البخل والطمع سلبية في الفضائل العربية الجاهلية، فإننا لا نؤيد الدعوة إلى تلمس الحياة الجاهلية في القرآن فقط، وسوف نرى أن بعض المقطعات الشعرية تكشف لنا صورة المجتمع الجاهلي، وتمثل كثيراً ممن يزّورون الفضائل في سبيل جمع المال، كما تمثل البخل الفردي والقبلي، إلى جانب صور الكرم الجاهلية المعروفة، وعلى كل حال يبقى تصوّر طه حسين خاطئاً. وقد كفانا مؤونة الرد عليه تلميذ له مخلص المودة، فناقش موقف أستاذه من إيمانه بقية التناقض بين الصورة التي يرسمها القرآن، والصورة التي يعتقد أن الشعر الجاهلي يرسمها لكرمهم، والتي جعلها حجة من حججه في رفض صحة هذا الشعر وإثبات بخله، واعتبر أن أستاذه قد "أخطأ الدلالة الصحيحة التي يدلها الشعر الجاهلي، وظنها مناقضة للصورة التي يرسمها القرآن، والحق أن لا تناقض، فالشعر الجاهلي يرسم للعرب الجاهليين صورة الكرم التام إلا إذا أخطأ الاستنباط وغفلنا عن دلالة الكلام( ) ". فإذا تركنا الأستاذ وتلميذه، وذكرنا مرة أخرى بطبيعة هذه الدراسة في سعيها إلى بيان المفاهيم المتعددة من خلال المواقف السلبية والإيجابية، تبيّن لنا أن الشعر الذي يتناول قضية البخل، يكشف لنا عن طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي كانت تتحكم بظهور قيم معينة في حياة العرب، وتؤكد قلة القيم النفسية الحرّة. وهذا الأمر نستنبط منه حكماً مفاده أن تلك القيم يمكن أن تتغير بتغيّر البيئة والمحيط والقوى الخارجية التي تحيط بالمجتمع العربي، وهذا يكذّب نظرية العقلية الآسيوية التي تغنى بها المستشرق الفرنسي "رينان( ) من جهة ثبوت القيم وتحوّلها. إن الجوانب السلبية في شعر البخل كما يراها الجاهليون، خلل بميزان الحياة الاقتصادية من حولهم. فالحياة البدوية المهددة دائماً بانحباس المطر تجعل الأغنياء عرضة للفقر، والفقراء عرضة للغنى، وهذا يفرض على الجاهلي أن يكون كريماً كي يحمل الآخرين على معونته إذا افتقر. وقد عبّر عن هذا المعنى أحد شعرائهم، فقال( ): وإنّكَ لا تَدْري إذا جَاءَ سَائِلٌ أَأَنْتَ بما تُعْطِيْه أَوْ هو أَسْعَدُ
عَسَى سائِلٌ ذو حاجَةٍ إذا مَنَعْتَهُ من اليوم سُؤلاً أَنْ يكونَ له غَدُ
وَفَي كَثْرَةِ الأيدي لذي الجَهْلِ زَاجِرٌ للْحِلْمِ أَبْقَى للرجَالِ وَأَعْوَدُ( )
وهذا يثبت نظرية الكرم المبنيّة على أساس الخوف من الحاجة الاقتصادية. فيكون هذا المفهوم إيجابياً بالنسبة لانتشار قيمة الكرم تحت سيف الحاجة وسلبياً لأنه ينهي القيم النفسية التي محتها من النفوس صحراءٌ مُجْدِبَةٌ قاحِلَةٌ ونفر عميم ضارب أطنابه في القبائل العربية هنا وهناك، وربما كان هذا الوضع الاقتصادي المؤلم يحتاج إلى مواقف البخل أحياناً، أو فلنقل الحرص. فالأبيات تدعو إلى إعطاء السائل( ) دون منّةٍ، فإنه لا يعلم أحد ما تأتي به الأيام. فالدهر يومان يوم لك ويوم عليك. فكأن هذا العمل نوع من التوفير الاقتصادي، أو رصيد عينيّ من السلع الاقتصاديّة يُدْفَع حين الحاجة. وربما هاجر الفرد من رهطه إلى قبيلة أخرى ساعياً وراء عيشه، و لكنه لا يجد ما يسد رمقه، فيضطر إلى كشف البخل الجماعي للقبيلة كلها، ويؤكد بخلها على من ليس ذا نسب قريب فيها، فيقول( ) : لعمري لرهطُ المَرْءِ خير بَقيّةٍ عَليه وَإنْ عَالُوا به كلَّ مَرْكَبِ( )
من الجَانبِ الأَقْصَى وإِنْ كانَ ذا غنى جزيل ولم يخْبِرْكَ مثلُ مُجرّبِ
إذا كُنْتَ في قَوْمٍ ولم تكُ منهُمُ فَكُلْ ما عُلِفْتَ من خبيثٍ وطيّبِ
فهذه المقطوعة تكشف عن أمر مهم يظهر في وحدة القبيلة الاقتصادية خوف الفقر والحاجة، فخيراتها محصورة على أفرادها، وليس للغريب إذا أراد ان يحيا فيها إلا أن يأكل ما تقدمه له مهما كان خبثه أو طيبه. ويتجاهل المنأى الواسعَ في الأرض للكريم الذي لا يصبر على الأذى، فيدعو إلى البقاء مع رهط الرجل، و إن أركبوه المراكب الصعبة، لأنهم – في رأيه – أنفع في إيصال الخير، ودفع المضرّة من الأباعد، وإن كانوا أصحاب مال كثير. إنه يريد أن يحمّل الناس مَحْمَلاً صعباً حين يقارن بين ذل رهط المرء له، وذل القبيلة التي لجأ إليها، فيفضل ذل جماعته. وإن أركبوه مركباً صعباً. فالحاجة الاقتصادية دفعته إلى تفكير اقتصادي سلبي حين وازن بين ذلين، واختار الأهون منهما، في حين يجب على المرء أن يتحمل مشاق الرحيل والهجرة من مكان إلى آخر حتى يجد العزة والكرامة والحياة الأفضل. كما كان شأن الشنفرى الجاهلي وغيره من الشعراء الإسلاميين وكما فعل المعاصرون من أبناء سورية ولبنان في القرن الماضي حين ازدادت الأحوال سوءاً فهاجر كثير منهم ليستبدلوا بالفقر غنى، وبالضعف قوة وبالعبودية حرية. ولم يقرنوا بين الذل الذي كانوا يعانونه في وطنهم والذّل الذي صادفوه في غربتهم، بل تحركوا من مكان لمكان بحثاً عن الحرية، وعن الحياة الأفضل. وهذا شاعر( ) آخر يشكو إساءة الجيرة ويصوغ شكواه في تهكّم وسخريةٍ لاذعةٍ، ويندم على تركه لقومه، وقد كان فارقهم مرغماً لهم وجاور كَلْبَاً فلم يحمد جوارهم ففارقهم ذاماً لهم، وهو يقول( ) : فَنِعْمَ الحيُّ كلْبٌ غيرَ أَنّا رَأَيْنَا في جِوَارِهم هَنَاتِ
وَنِعْمَ الحيُّ كَلْبٌ غيرَ أَنَّا رُزِئْنَا من بنيْنَ وَمنْ بَنَاتِ
فإن الغَدْرَ قد أَمْسى وَأَضْحَى مُقيماً بَيْنَ خَبْت إلى المساتِ( )
تَرَكْنَا قَوْمَنا مِنْ حَرْبِ عَامٍ ألا يَا قَوْمِ لِلأَمْرِ الشّتَاتِ
وَأَخْرَجْنَا الأَيَامَى من حصوْنٍ بها دارُ الإقَامَةِ وَالثّبَاتِ
فَإنْ نَرْجعْ إلى الْجبَلَيْنِ يَوْماً نُصَالح قَوْمَنا حتّى الْمَسَاتِ( )
واضح أَن الطمع والبخل قد دفع الكلبيين إلى الغدر، وهذه آفة من آفات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجاهلية( ) . إن بخل هؤلاء قد بلغ في نظر الشاعر درجة الغدر( ) . فقد لاقى منهم الأمور المنكرة، وتألم لما فعلوه بهن فاستخدم الاستثناء المنقطع – في الناحية الفنية – مرتين، ليظهر فجيعته، و يعم الغدر في بني كلب فيراه مقيماً في كلب بين مائيها من خبت إلى المسات. ثم أظهر ندمه على مفارقة قومه، وتذكر صور الحرب التي جعلته يجلو عنهم والأيامى الذين حصدت الحرب أزواجهم، وتعلم من هذه الحياة قيمة المحبة والسلام فصار يعد بالصلح والسلامة أن عاد إلى قومه. فإذا عدنا إلى الواقع التاريخي والاجتماعي الذي تبرزه هذه المقطوعة نرى الطمع والبخل في أفراد القبيلة الكلبية بحيث اجتمعوا على إيذاء جارهم المستجير بهم خلافاً لما هو معروف عند العرب من حماية الجار المستجير، وهؤلاء وأمثالهم حاربهم القرآن في قوله: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً سعيرا" وأظهر الشعر غدرهم وطمعهم، لبخل فيهم. ونتجاوز البخل والطمع والغدر في البعيدين عنهم، لنقف عند ظاهرة اقتصادية أخرى فيها كشف لقيمةٍ سلبيّةٍ مماثلةٍ تظهر في بخل الأقارب فقد جاءت أشعار عن جوانب أخرى حيث يختل الوضع الاجتماعي ويفقد توازنه تحت تأثير الحاجة فتبخل الأم على أولادها، مدّعية التقتير؛ عندها تختل الموازين التربوية أيضاً، فتبدأ المخاتلة والمراقبة حتى إذا انتهز الواحد من هؤلاء فرصة غياب أمه في بعض حقوق أهلها، دخل الخيمة وأخذ ما يريد ثم خرج، يقول( ) : ولمّا مضت أُمّي تزورُ عيالَها أَعَرْتُ على العكم الذي كان يُمْنَعُ( )
خَلَطّتُ بصاعَيْ حنطةً صاعَ عَجْوَةٍ إلى صَاع سَمْنٍ فَوْقَهُ يتربَّعُ
وَدَبَّلْتُ أمثالَ الأَثَافِي كأنَّها رؤوس رِخَالٍ قُطّعَتْ لا تُجَمَّعُ( )
وقلُت لِبَطْنِي أَبْشِرِي اليومَ إنّه حِمى أُمَّنَا مما تفيدُ وَتَجْمَعُ
فَإنْ كُنْت مصفوراً فهذا دواؤه وَإِنْ كُنْت غَرْثانا فَذَا يَوم تَشْبَعُ
هذه المقطوعة وثيقة اقتصادية تكشف كثيراً من السلبيات التربوية التي لجأت إليها الأم في محاولة التقتير، أو في بخلها فدفعت ابنها إلى السرقة التي لا يأثم صاحبها... كما أنها تكشف عن صعوبة الحياة الاقتصادية التي دفعت الأم إلى هذا التصرف. وقد اختلط هذا الأمر الاقتصادي الاجتماعي على الأصمعي، فاعتبر تصرف المزرو دليلاً على الجشع والنهم، ولم يعلل تصرفه بالجوع، ولا تصرف أمه بالتقتير أو البخل . الأول، بدافع من الحياة الفقيرة الصعبة، والثاني بدافع نفسي. ولاشك أن الأصمعي لم يكن يجرأ على اتهام العرب بالبخل ولاسيما في حضرة الرشيد حين قص عليه أمر القصيدة( ) . ويشكو بعضهم من بخل أقاربهم الآخرين الذي يدفعهم إلى الغدر طمعاً في مال قريبهم مع أنه ابن أخت لهم. فقد فضح غسان بن وهلة( ) غدر أخواله من بني سعيد، وقد أغاروا على إبله( ) ، فقال: إذَا كُنْتَ في سَعْدٍ وأمُّكَ منْهُمُ غريباً فلا يَغْرُرْكَ خالُكَ من سِعْدِ
فَإنّ ابنَ أُختِ الْقَوْمِ مُصْغىً إِنَاؤُه إِذَا لَمْ يُزَاحِمْ خَالَه بِأَبٍ جَلْدِ( )
الفردية القبلية هي أهم ما يستنتجه المرء من هذين البيتين، فالأعمام إذا لم يكونوا أقوى من الأخوال، لا يمكن أن يحمي ابن أختهم من غدرهم وحين يحمي لقوة أعمامه لا يكون لهم فضل في حمايته. ويكون الواقع الاجتماعي السلبي قد فُضِحَ على يد هذه الإشارات الاقتصادية الإيجابية في مطاردتها لمواقف القبائل والأفراد السلبية. وهذا ما يفسر اشتهار حُمَيْد الأَرْقَط( ) بالبخل، الجانب السلبي المقابل للجانب الإيجابي المتمثّل بكرم حاتم الطّائي. فقد كان الأرقط هذا يصف أكل ضيفه وصفاً ينم عن بُخْلٍ شديد، وَضيْقِ نَفس، فيقول( ) : ما بَيْن لُقْمَتِه الأُوْلَى إذَا انْحَدَرَتْ وَبَيْنَ أَخْرَى تليها قيدُ أُظْفُوْر
يخشى الجاهلي كثيراً هذه الصورة الكاريكاتورية "المضحكة، فيفضل ألا يمرّ على قائلها خشية أن يقول فيه ما يضحك المجتمع منه. ويبدو أن حُمَيْدَاً هذا قد تصدّر للأضياف يطاردهم هنا وهناك إذ ما المانع أن يأتيه فرد من قبيلته يطلب منه هجاء أضياف عنده؟!.. ما دام هو القائل في هؤلاء الأضياف( ) : لا مَرْحَبَاً بوُجوه الْقَوْم إِذا نَزَلُوا دُسْمَ الْعَمَائِم تَحْكِيها الشّياطِيْنُ
أَلْقَيت جُلَّتنا الشِّهْريزَ بَيْنَهم كأنّ أَظْفَارَهم فيها سَكَاكِيْنُ( )
وهكذا يتّضح خطأ طه حسين في ادعّائه عن الشعر الجاهلي أنه يمثل العرب أجواداً كراماً مهينين للأموال مسرفين في ازدرائها. وفي( ) طلبه للحياة الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية في القرآن الكريم فحسب. ولكن أسوأ السّلبيات التي ظهرت في هذا المنحى الاقتصادي ما حتّمه استتباع المفهوم القبلي والحياة القبلية من اتخاذ موقف سلبي من الحرف ومن الزراعة. وقد عكس الشعر الجاهلي، في منحاه القبلي صورة هذا الاحتقار للعمل والزراية به، وبدت شخصية الشاعر وكأنها نقيض الحرفي أو الزارع، فالشاعر – على رأى بعض الباحثين( ) - صنو الساحر القديم يروم تبديل الواقع أو احتماله بوسائل أقرب إلى الوسائل السحرية. وهكذا قدّر لهذا الشعر أن يكون له موقفٌ سلْبِي من الحرف والمهن التي كانت منتشرة في اليمن نتيجة الحضارة التي قامت فيها، لذلك اقترن الفخر بهذه النظرة، فنرى أمية بن خلف الخزاعي يهجو حسان بن ثابت وهو من أصل يمني بقوله( ) : أَلاَ مَن | |
| | | | الإيجابية والسلبية في الشعر العربي بين الجاهلية والإسلام -تتمة2- | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|