قراءة تركيبية الجزء 2
ليطرح الشكل الجديد المتمثل في الشعر الحديث الذي تجاوز التصوير إلى الكشف عن واقع الفصل الرابع وجاء الشاعر النفسي والاجتماعي والحضاري واستشراف المستقبل ، و ساهمت الوسائل الفنية في توضيح القيمة الفكرية ،ومدها بالقيم الجمالية حيث تحول الشاعر عن الوسائل التقليدية لعدم مناسبتها حياته المتغيرة في وإطارها ص196، وربط أدوات تعبيره ووسائله الفنية باللحظة التي يحياها في طبيعتها الخاصة وهو ما يبرر تقارب الشعر الحديث في الأسلوب وطريقة التعبير واستخدام الصور البيانية والرموز والأساطير (وحدة التجربة تفرض وحدة الوسائل) ص 198،و ارتباط نمو الشكل بطبيعة التحول والتجربة
ولم تسلم لغة الشعر الحديث من رياح التطوير فتدرجت اللغة في التطور وفي اتجاهات مختلفة حتى أصبح لكل شاعر لغته الخاصة ،فمنهم من فضل العبارة الفخمة والسبك المتين والمعجم التقليدي سيرا على نهج القدماء (بدر شاكر السياب نموذجا )،ومنهم من انتقل إلى لغة الحديث اليومي كالشاعر أمل دنقل .
كما نجد من سعى إلى السمو باللغة إلى حد الإيحاء والغموض، و شحن اللغة العادية بمعاني ودلالات جديدة بتحويلها إلى رمز وربطها بعالم الشاعر وهو ما جعل السياق اللغوي ينبع من الذات ليعود إليها .
أما بالنسبة للصورة الشعرية فقد عمد الشاعر الحديث إلى الحد من تسلط التراث على أخيلته وربطها بآفاق التجربة الذاتية و التخلص من الصورة الذاكرة إلى الصورة التجربة،فأصبحت تتوزع الصورة بين مدلولها لذاتها ومدلولها في علاقتها بالصور الأخرى ومدلولها في علاقتها بتجربة الشاعر
و تطور الأسس الموسيقية للشعر الحديث يمثل امتدادا طبيعيا لباقي التحولات السالفة ، حيث اعتمد الشاعر الحديث على الإيقاع التقليدي والتجديد في داخله مع إخضاع الموسيقى لتجربة الشاعر في تطورها وتنوعها فكان التغيير في أسس الموسيقى الشعرية يعتمد التدرج في التغيير من خلال الزحافات والعلل و تطعيم موسيقى البحر بالتنغيم الداخلي ،مع ربط طول السطر الشعري بالنسق الشعوري والفكري،و اقتصار الشعراء على بحور محدودة يتولد منها عدد جديد من التفعيلات .ص 240 ،و خضوع القافية للمعاني الجزئية داخل القصيدة ،و تفتت نظام البيت جعل القافية تتعدد في أحرفها و تنوع بتنوع الأضرب ارتباطا بالجملة الشعرية .
وفي خاتمة الفصل ينفي الكاتب مسؤولية الحداثة على الغموض في الشعر الحديث ، وربط الغموض بعنصر المفاجأة في الشعر الحديث،فغموض الشعر يرجع إلى خروجه عن المألوف لكونه يقدم ما لا نتوقه وما لا نتوقعه وهو ما يؤكد الجهد الشاق في صدق التعبير المسؤول عن خفاء المعنى.
والمتتبع لفصول مؤلف "ظاهرة الشعر الحديث" يلمس عن قرب العناية الكبيرة والمركزة التي خص بها الكاتب مؤلفه ، ويتبين ذلك من خلال المسار النقدي المعتمد عبر الفصول ، إذ كانت البداية بتحديد موضوع الدراسة النقدية: ظاهرة التطور في الشعر العربي وخصها بتقديم نظري حول الشروط الواجب توفرها لتحقيق التطور ثم البحث في وضعية شروط التطور في الشعر العربي،وأخيرا النتيجة المحصلة استقاها ميدانيا من تجارب الشعراء مع كل مرحلة من مراحل التطور ،ورصد مستويات ومظاهر التطور في الشعر العربي.
ينطلق أحمد المعداوي في هذه الدراسة من منهج تاريخي فني يركز فيه على الجانب الفكري الثقافي الفاعل في عملية تطور الشعر العربي، ويتمثل المنهج التاريخي في تحقيب الشعر العربي زمنيا ( الشعر العباسي والأندلسي ومدرسة الديوان وجماعة أبولو وتيار الرابطة القلمية) من خلال ربطه بالظروف التاريخية كربط الشعر العربي الحديث في القرن العشرين بما عرفه العالم العربي من نكسات ونكبات وحروب وهزائم.وما أفرزته من تحولات في الشعر العربي
وللحفاظ على التتبع المنطقي اعتمد الناقد في دراسته التدرج التاريخي في تتبع نشأة الشعر الحديث اعتمادا على الوقائع التاريخية والتحولات الاجتماعية والفكرية المصاحبة، وهو ما يتوافق مع المنهج البنيوي التكويني خاصة وأن الكاتب يستخرج خصوصيات التجربة من خلال إنتاج الشعراء ويبحث في العناصر المتحكمة فيها،مما جعل الناقد يتوقف عند تيمة الغربة والضياع كمصطلح مشترك بين شعراء هذه التجربة يتشكل تبعا لوضعيات الشاعر مع الكون والمدينة والحب والكلمة ،و إشكالية الموت والحياة التي درسها اعتمادا على عينة خاصة من الشعراء دون احترام الأولوية والترتيب الزمني للشعراء بدأ بأدونيس ثم خليل حاوي ثم السياب فالبياتي، مع اهتمام خاص بتجربة الموت التي أعطاها حيزا متميزا عن تجربة الحياة فأسهب مع البياتي في المنحنى الثاني والثالث بينما السياب كان حضه من الاهتمام أقل .
كما لم يغفل في دراسته النقدية الجانب الفني المشكل للقصيدة الحديثة انطلاقا من عناصرها الثلاث :اللغة والصورة والموسيقى ، وقد تتبع مظاهر التحول عبر الزمن ومن خلال تجربة بعض الشعراء .
وحتى يبعد تهمة الفصل بين الشكل والمضمون في دراسته للشعر الحديث أكد منذ البداية على أن الشكل والمضمون يمثلان نسقا واحدا لا يمكن الفصل بينهما في فهم المعنى وإنما دراسة الجزء لفهم الكل وظل يؤكد على ذلك في دراسته للغة والصورة والإيقاع إذ لا يمكن استيعاب مدلولها إلا من خلال المضمون العام للقصيدة .
إلا أن حدة الاستشهاد تضاءلت بشكل ملحوظ مع الفصل الرابع أمام هيمنة السرد النظري الذي يستحضر القواعد المشكلة للبناء الفني في الشعر الحديث ، وقد برر ذلك ضمنيا عندما قال أن "وحدة التجربة تفرض وحدة الوسائل " ص 198
ويبقى الأسلوب التقريري مهيمنا في هذه الدراسة النقدية، حيث يطغى أسلوب التعريف والوصف والسرد حتى الأعمال التطبيقية كانت حبيسة هذا الأسلوب.
فاللغة تسير على نفس النسق اللغوي التقريري بما أنها تعتمد على معطيات تاريخية في تتبع مسار تجربة الشعر الحديث : تاريخية سياسية وتاريخية فكرية وتاريخية فنية ، والجانب الفني يبقى محصورا فيما يقدمه الكاتب من استشهادات شعرية يمكن تصنيفها في خانة التوثيق الذي يعطي للفصل الطابع التاريخي الرسمي تسيطر عليه ذاتية الناقد الذي يتحكم في توجيه عمله النقدي نحو أهداف محددة ،خاصة وأنه يركز على موضوع الغربة والضياع والحياة والموت دون غيرهم من الموضوعات الأخرى .
الناقد في هذا المؤلف اشتغل على ثنائية متضادة من خلال أسلوب حجاجي يعتمد الأطروحة ونقيض الأطروحة ليبين كيف أن نقمة نكبة 1948 تحولت عند الشاعر العربي إلى نعمة جعلته يتخلص من سلطة الشعر التقليدي ، ويمارس حريته في الإبداع والتألق بعيدا عن التقليد ، والغربة ولدت الرغبة في البعث ،كما أن الموت اعتبر معبرا نحو الحياة، فكان التركيب هو الشكل الجديد الذي أصبح يميز تجربة الشعر الحديث.
أما الثنائية الثانية فتتمثل في ربط استمرار التطور والتجديد في الشعر الحديث بتوالي النكبات التي اعتبرها الناقد محفزا قويا يزيد من وثيرة التجديد عند الشاعر إلى حد اعتبار النكبات ظاهرة صحية بالنسبة للشاعر والجودة الشعرية.