الفصــــــــــــــل الثانـــــــــي
البنيـــــة المعماريــــة
سنحاول في هذا العنوان أن نقارب البنية الكلية للقصيدة وهو مبحث حظي باهتمام من نقادنا القدامى، فتحدث ابن قتيبة( ) عن طريقة استهلال القصيدة والدخول في الموضوع والبسط فيه ثم طريقة الاختتام، وعلل بسبب من ذلك ذكر الشاعر الديار والدمن في أول القصيدة وانتقاله إلى ذكر المحبوبة وآلام الوجد ثم وصفه الرحلة المضنية متحملاً على الناقة وأخيراً الوصول إلى المبتغى ممدوحاً كان أو غيره يقول: "وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع... ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين... ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب... لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل.. فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء... بدأ في المديح"( ).
ويعبر هذا التفسير والتعليل لبنية القصيدة والتلمس لمختلف مراحلها عن وعي نسبي في ذلك الوقت بمعمارية النص أو بنيته الكلية وهو وعي تطور عند كل من الحاتمي( ) وحازم القرطاجني فيما بعد( ).
لقد ميز"حازم" بين القصائد الطويلة والمتوسطة والقصيرة، كما ميز بين القصائد البسيطة والمركبة، ووصف أساليب الافتتاح والإرداف والتخلص والخروج والاختتام محاولاً بذلك أن يرصد بنية القصيدة.
أما في العصر الحديث فقد تحدث أصحاب مدرسة الديوان عن"الوحدة العضوية" في النص واعتبروها معياراً لنجاح القصيدة، باعتبارها دليلاً على وحدة الشعور( ).
وقد تطور هذا المفهوم مع حركة الشعر الحديث فبدأ النقاد العرب المعاصرون يتداولون كلمتي"الهندسة" و"البناء" في النص وهو ما نظر له الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه: "الشعر العربي المعاصر" وأطلق كلمة"معمارية" طابعاً اصطلاحياً درج كثير من النقاد على استعماله، ويحدد الناقد ثلاثة أشكال للقصيدة المعاصرة:
- الشكل الدائري: ويطلقه على القصيدة التي يتفق مطلعها وختامها لفظاً وتركيباً أو هما يتفقان من حيث الموقف الشعوري الموحد لهما.( )
- الشكل المفتوح ويطلقه على القصيدة التي تختلف خاتمتها عن مطلعها، ترتبط بالبداية ارتباطاً عضوياً ولكنها تبقى في" آخرها إطاراً مفتوحاً يحس من خلاله الشاعر بلا نهائية التجربة( ).
- الشكل الحلزوني: ويطلقه على القصيدة التي يتكرر في مقاطعها نفس السطر الشعري أو الجملة أو الكلمة، وبنية القصيدة على هذا النحو تشبه السلك الحلزوني الذي يبدو لنا في النظرة الأفقية إليه مجموعة من الحلقات المستقلة ولكنها في الحقيقة مترابطة يوحد بينها الموقف الشعوري الأول( ).
وبإعادة النظر في هذا التقسيم نجد أن الشكل الأخير"الحلزوني" قد يلتبس بسابقيه، خاصة وأن التكرار سمة من سمات القصيدة المعاصرة، تأكيداً للمعنى وتنغيماً للموسيقى وتكثيفاً للحالة النفسية.
وإلى جانب هذا التوزيع الشكلي للقصائد تحدث عز الدين إسماعيل عن البنية المعنوية للقصيدة الحديثة وقسمها إلى نوعين:
أ) قصيدة قصيرة: وتأتي عنده رديفاً للقصيدة الغنائية يقول" وإذا كنا قد أطلقنا اسم القصيدة القصيرة فينبغي أن يكون واضحاً هنا أن القصر ليس معناه قلة عدد أسطر القصيدة، فقد تكون القصيدة طويلة من حيث عدد الأسطر، بل قد تشتمل على عدة مقاطع ومع ذلك تظل قصيدة غنائية ومن ثم قصيرة، وما دامت تصور موقفاً عاطفياً في اتجاه واحد( ).
ب) قصيدة طويلة: أما القصيدة الطويلة فهي ذات البنية الدرامية المتشابكة التي تتعدد فيها الأصوات، تجد فيها الخرافة والحقيقة والقصة والرمز والخبرة الإنسانية والمعرفة.
والظاهر أن الفرق بين هذين الشكلين كما نستخلص من آراء الكاتب فرق في الجوهر أكثر منه في الشكل وهو فرق يثير مسألة الغنائية في الشعر.
ويوضح الناقد الفرق بين القصيدة الغنائية والقصيدة الطويلة قائلاً: "أريد أن أضغط بصفة خاصة على لفظي عاطفة وفكرة في موضعيهما الخاصين، وينبغي أن يتضح أنهما هما اللفظان اللذان يؤديان بتسليطهما على طبيعة الشعر إلى التمييز الجوهري الذي نرغب في عمله بين القصيدة الطويلة والقصيدة الغنائية"( ).
ويعطي هذا التمييز بين الشكلين مفهوماً أكثر عمقاً للقصيدة الطويلة حيث يربطها بالعاطفة والفكرة، وهو بهذا يقصد إلى نوع من الانتقائية في الشعر، ويصبح المفهوم مرتبطاً بالمبدع نفسه وقدرته على التعبير عن انفعاله تعبيراً شعرياً سامياً.
وتشكل معمارية النص جزءاً هاماً ومعتبراً في قراءته واستبيانه عند النقاد المحدثين وذلك"لأن التوفيق بين المقاربتين: قراءة النص كخصائص ومميزات، ثم قراءته كامتداد سردي أي مجموعة من التوترات المتكررة على عدة مستويات والتي لا تقوم إلا بوصفها مواطن للتحويلات والانعطافات تبدو الآن من مميزات الاستراتيجية المعتمدة في استكشاف مكامن الشعرية( ). ذلك أن توزيع الكتابة فضائياً أصبح يأخذ بالحسبان قيمة البياض وهو ما يجعل النص ينظر إليه في شكله النهائي على أساس من ذلك لأن دلالة الكل أكبر من الحصيلة الخطية للدلالات الجزئية، ويمكن الاستعانة في هذا المجال بالمفاهيم الأساسية التي اقترحت من طرف المشتغلين بالسرديات:
لقد ميز كلود بريمون( ) بين ثلاث لحظات في كل عملية منطقية:
- اللحظة الأصلية(الفاتحة)
- اللحظة الانتقالية(الصيرورة)
- اللحظة النهائية(الخاتمة).
وتحدث بصدد الانتقال من اللحظة الانتقالية إلى اللحظة النهائية عن إمكانيتين للصيرورة هما: التحسن(Amelioration) والتدهور(Degradation)، ويقارب هذا التصور للحظات النص تصور محمد مفتاح له، فكل نص حسب رأيه لابد وأن يشتمل على:
- الجملة المنطلق(تمثل البداية)
- الجملة القنطرة(وتمثل النقلة)
- الجملة الهدف(وتمثل بؤرة النص)
وكلا التصورين ينطلق من أن للنص بداية- ووسطاً- ونهاية- وسنرى مدى انطباق هذه المفاهيم على مدونتنا للتعرف على طريقة بناء النص:
أ) بنية القصيدة:
نلاحظ عند الاستعراض البصَري للمتن تفاوتاً في عدد الأسطر في القصائد وتبايناً في طريقة بنائها وتوزيع الفقرات فيها، فمن الواضح أن القصائد في المرحلة الأولى ظلت قصيرة النفس بسيطة التركيب، فقصيدة"يا موطني" لمحمد بن إشدو لا يتجازو عدد أسطرها 19 سطراً بما في ذلك تكرار"اللازمة"( ) (يا موطني) في القصيدة، كما أن بقية قصائده، وقصائد أحمد وفاضل كلها تبقى في حدود الصفحتين.
وتقوم بنية القصيدة في هذه المرحلة على مفصلة النص عن طريق تكرار لازمة تأتي عند نهاية كل مقطع مثل قصيدة"يا سيدي الهمام" حيث يتوزع النص إلى أربعة مقاطع تأتي اللازمة"يا سيدي" فاصلاً بينها، وهو ما يتكرر عند محمد بن إشدو في قصائده: "يا موطني" "أطفالنا يتساءلون" و"لمن السمتقبل" كما يتبعه أحمد في قصيدته"نشيد العمال".
وسنأخذ نموذجاً لهذا التوزيع المقطعي عن طريق الفاصلة اللازمة لنؤكد ما أثبتنا قبلا:
نموذج لمن المستقبل لمحمد بن إشدو:
رفيقتي
القمع ضد الشعب لا يعني سوى عجز الطغاة المجرمين
القمع يعكس خوفهم من قوة الشعب المتين
القمع يعني أنهم ليسوا على الحق المبين
ويناقضون طبيعة التاريخ يخفون السنين
ويقيدون تقدم الشعب الذي لن يستكين
رفيقتي
من ذا الذي ينمو ويكبر في البلاد
ومن البذور الحالمات في النور يدفعها السماد...( )
وتختفي هذه التقنية التوزيعية للنص عن طريق اللازمة في قصائد المرحلة الثانية لتطالعنا من جديد عند بعض شعراء المرحلة الثالثة خاصة مع أحمد ومحمد بن عبدى.
وكما أسلفنا فقد أطلق عز الدين إسماعيل على هذا النوع من بناء القصيدة"الشكل الحلزوني" وينطبق على كل قصائد المرحلة الأولى كما يحكم قصائد هذه المرحلة نوع من الترابط المنطقي بين أجزائها لاعتمادها ما يسميه تودوروف"التركيب الإحالي" الذي يشد الأبيات والفقرات إلى بعضها بعرى لا تنفصم حتى ولو تم الاستغناء عن أدوات الربط المعروفة، ويمكن أن نتبين ذلك من خلال رصد الحركات في قصيدة فاضل"يا سيدي الهمام"( )
الحركة الأولى:
يا سيدي الهمام
تمهيد الطلب :إنا هنا مواطنون
وهذه بلادنا
من ألف قرن قبلكم وألف عام
الحركة الثانية:
فلترحلوا يا سيدي
الطلب: ولترحلو
من فوقنا وتحتنا
فنحن وحدنا في أرضنا مخلدون
الحركة الثالثة:
وخبزنا
وملحنا
مبررات الطلب :يا سيدي منحته لغيرنا
رميته إلى الذئاب
وكما نلاحظ فإن الحركات التي حكمت سيرورة النص جاءت مترابطة ومنطقية، تدرجت بتدرجه حتى النهاية، مما يجعل القصيدة تحاذي في بنائها الكلي أي خطاب عادي أو بيان سياسي يعبر عن نفس المعنى، ففي الحركة الأولى استعرض الشاعر حالة شبه المقهور وحقه المشروع في هذه الأرض التي ورثها عن أجداده الغابرين.
أما الحركة الثانية في النص فتترجمها أفعال الأمر المتواترة، يهيب الشاعر بالمستعمر فيها أن يرحل ويقوض كل أشيائه. وتأتي الحركة الثالثة تبريراً لهذا التصرف، حيث يبسط الشاعر أسباب نقمته على المستعمر.
إن ترتيب الأحداث وفق هذا النسق المنطقي الصارم يختلف عما عهد في القصيدة الكلاسيكية العربية من اعتماد للوحدة المعنوية في البيت مما يجعل التقديم والتأخير جائزاً في فقراتها، وليس هذا الحكم مطلقاً، فبعض القصائد التقليدية تترابط أبياتها ترابطاً وثيقاً، ثم إن الوحدة العضوية في القصيدة الكلاسيكية تعوض ما ينتقده البعض من اجتزاء في معانيها حيث تصب عادة في معنى كلي يعبر عن مقصدية الشاعر، أما في القصيدة الحديثة فإن النقد يؤسس لما يدعى الوحدة العضوية، أي الترابط المعنوي بين مختلف مكونات النص الشعري.
ويظهر في قصائد المرحلة الثانية اعتماد الشعراء الشكل المفتوح، حيث تتخذ بنية القصيدة مساراً خطياً بدون تعرجات حتى تصل إلى ختامها، وتعتمد القصائد في توزيع مقاطعها على الجمل حيث أن كل متتالية تشكل مقطعاً قائماً بنفسه كما في قصائد"أحمد" (أنشودة الوفاء- أمير الخالدين- المجد للإنسان) وقصيدة"محمد الحافظ" (ويكون بعد الفجر ثم لنا لقاء).
ويمكن أن نتبين التوزيع الفضائي للمقاطع في قصائد هذه المرحلة من خلال النماذج التالية:
نموذج 1: ويكون بعد الفجر ثم لنا لقاء/ محمد الحافظ
زعموا الليالي نزهة المشتاق
فيها يناجي طيف من يهوى
الليل آه من الرتابة والسكون
ومن الخيال الساهر.
وأبو لبابة من قديم
تنتابه بالليل أنواع الهموم
يبكي ويربط نفسه بالساريه
بالباب حشرجة
كما يتذكر الشيخ الضرير
عز الشباب وبعض طعم العافيه...
... فلعل هذا الليل يدركه اللغوب
كي يشرق الفجر الجديد
وأرى الطفولة كالورد
ألقى من النحت الغناء..
تتميز في القصيدة ثلاث لحظات يتوزعها الحاضر- الماضي- الحاضر، المتكلم- الغائب- المتكلم، ويظهر الانسجام بين الحالة النفسية في اللحظات الثلاث"لأنا الشاعر"، والشخصية الدينية"أبو لبابة"، كما أن بؤرة التوتر تتكرر في اللحظات الثلاث من خلال العبارات التالية: الليل آه من الرتابة والسكون/ تنتابه بالليل أنواع الهموم/ فلعل هذا الليل يدركه اللغوب.
هكذا يبرز جلياً أن المفردة"الليل" كانت قاسماً مشتركاً بكل قامتها ومواجعها وإيحاءاتها الدلالية بالتخلف والجهل والهموم بين اللحظات الثلاث تعبيراً عن معاناة الشاعر النفسية وهمه القومي، وتتجاوز اللحظات الثلاث في نسق خطي غنائي تبرز فيه ذات الشاعر محوراً للأحداث.
ولعل الصوت الموحد لبنية هذه القصائد هو صوت الشاعر الذي يحاول أن يوصله إلى الآخرين أو إلى نفسه وهو ما وصفه عز الدين إسماعيل في حديثه عن القصيدة الغنائية المعاصرة بقوله"لو رسمنا خطاً بيانياً للقصيدة المعاصرة، لقلنا إنها تطوير لموقف عاطفي مفرد يتحرك أو يتطور في اتجاه واحد، وهذا هو المعيار الذي نستبصر من خلاله بالقصيدة الغنائية المعاصرة"( ).
وانطلاقاً من المفهوم الذي حدده عز الدين إسماعيل للطول والقصر في القصيدة الحديثة وارتباطهما لا بعدد الأسطر في النص وإنما بأحادية اتجاهه أو تشابك العلائق والاتجاهات فيه، نلاحظ أن القصائد منذ منتصف السبعينيات بدأت تظهر أكثر امتداداً إذا ما قارناها بقصائد المرحلة السابقة، كما بدأت تظهر فيها أصوات حوارية وسردية جديدة خاصة عند"أحمد في قصائده: يوميات سجين"، "المجد للإنسان"، "أمير الخالدين" وهو منحى سيتطور في قصائد الثمانينات حيث تبلغ القصائد مداها في الطول مدفوعة بالنفس الملحمي، وتتشابك العلائق، وتتعدد الأصوات في النص الواحد. ويزدوج أحياناً في بعض القصائد طول النفس أي الامتداد الكمي، إلى جانب الامتداد والثراء الفني كقصائد أحمد وناجي ومحمد بن عبدى بينما تميل قصائد مباركه وإبراهيم وعبد الله إلى الاقتصاد في عدد الأسطر وإن كانت متعددة الأصوات غنية بالمداليل.
ويتوزع قصائد هذه المرحلة الشكل الدائري بنوعيه المغلق والمفتوح ويتميز الشكل المغلق كما يقول"عز الدين" بأنه يجعل القصيدة على شكل دائرة مغلقة تنتهي حيث تبدأ، إذ ينطلق الشاعر من نقطة أو موقف شعوري معين ويفسح المجال للقصيدة في تتابعها وتناميها حتى تصل إلى نقطة تأزم، فتبدأ تتراجع لنقطة البداية وخير مثال لها"أنشودة جرح و"السفين" لأحمد، وسنتبين البنية من خلال توزيع الحركات في كلتا القصيدتين.
- نموذج 1: أنشودة جرح( )
- الحركة الأولى: الليل ليل عربي
هادر
والأفق أفق عربي
ماطر
- الحركة الثانية: كل مصابيح البيوت
والشوارع
وكهرباء الطبخ
والمدافئ
نائمة في عطلة الشتاء....
- الحركة الثالثة: والساهرون من وراء
الطرف الأبعد من
راحة ميكائيل
ضارعون يطلبون ربهم...
- الحركة الرابعة: ودمدمت صواعق
ورفرفت بيارق
وانتفض الفرسان
والقلاع والبيادق...
- الحركة الخامسة: وانبثت أفواج
وأفواج من النحل
المثار
باحثة عن ملجأ
- الحركة السادسة: ودخلت عين الرضيع
نحلة صفراء
- الحركة السابعة: الطفل يمضغ العويل
والدموع
في ألوانها المختلفة
- الحركة الثامنة: لو لم تكونوا عربا
وعربا عرباء
أشعلتم النيران
بانتظام
حول الدوحة الخضراء
- الحركة التاسعة: وليغضب التاريخ
والصغار
والشعر والمقابر
فالليل ليل عربي
هادر
والأفق أفق عربي
ماطر
تشتمل هذه القصيدة على تسع حركات ويأتي هيكلها البنائي نموذجاً للقصيدة ذات البنية المغلقة والشكل الحلزوني.
لقد انطلقت القصيدة من موقف شعوري معتم"الليل ليل عربي هادر" وتواترت المشاهد الجزئية متجانسة عبر هذه الحركات، يتولد بعضها عن بعض في توتر وانسجام حتى عادت إلى نقطة البداية، وقد ظلت العبارة الأولى"الليل ليل عربي هادر" تتخلل النص عبر تواتراته المختلفة، فالليل في القصيدة بقدر ما يبدو حقيقة موضوعية هو كذلك واقع نفسي سيطر على القصيدة وانتشر في أجزائها محدثاً بينها تجاوباً يبدو مرة في شكل تنافر وتعارض ومرة في شكل تقارب وتساند، نضع لذلك المخطط التالي:
ح1 = نوم المدينة ونوم جندي الحراسة = الخوف
ح2 = نوم مصابيح البيوت والشوارع = الخوف
ح3 = الساهرون الضارعون = الخوف والذعر
ح4 = صواعق+ بيادق+ فرسان = الخوف والذعر
ح5 = النحل باحثاً عن ملجأ = الأنقاض والخوف
ح6 = عين الرضيع مخبأ للنحلة = الضحايا والخوف
ح7 = الطفل يمضغ العويل والدموع = الخوف والذعر
ح8 = النار والدوحة الخضراء = الهدم والخراب
ح9 = غضب التاريخ والصغار والشعر = الإبادة والخراب
ومن خلال هذه الترسيمة نلاحظ أن الليل كان بؤرة استعارية تمددت عبر النص في شتى حركاته مكتسبة في كل حركة معنى جديداً يرتبط بالمعنى الكلي للنص.
نموذج 2: السفين( )
- الحركة الأولى:
رحلنا كما كان أجدادنا يرحلون
وها نحن نبحر
كما كان أجدادنا يبحرون
تقول لنا ضاربة الرمل:
واعجبا
سفينتكم رفعت كل المراسي
مبحرة
ألا تشعرون؟
- الحركة الثانية:
وبادرتها راحما
هوني عمتي عليك
خيال العرافة
يعمي البصائر
- الحركة الثالثة:
غادرت راسمة الحظ
لا أنا أصغي
إلى هذر
ولا دجل
- الحركة الرابعة:
أحس دوارا وخوفا
كمن ركب البحر
أسائل عن ضاربة الرمل
فلله ما كان أصدقها..
- الحركة الخامسة:
إلام إلى أين هذا المسير
يا قومنا؟
هل كتب التيه علينا
قدراً أزلا......
- الحركة السادسة:
هل يعود السفين
والبحر؟
أم يسكنان
ما أنا أدري
ولا الأهل يدرون
ماذا يسجله
غدهم
وماذا سيرجعه
أمسهم
وحاضرنا رحلة للبقاء
في دروب الفناء
مع الزمن الهارب
من أصله
على طبق
من صحون الرياح
رحلنا كما كان أجدادنا يرحلون
وها نحن نبحر
كما كان أجدادنا يبحرون
تدور القصيدة في ست حلقات متكاملة يتنامى فيها الحدث بشكل درامي رائع يبدأ منذ اللحظة الأولى بتلك المسلمة القسرية من الشاعر"رحلنا" وتظهر الرحلة من خلال الحركة الأولى رحلة عبثية سيزيفية لا تختلف في شيء عن الرحلات السابقة لأسلافهم"كما كان أجدادنا يرحلون"، إلا أن سبب هذه الرحلة يظهر نبوءة قبل أن يكون واقعاً.
تقول لنا ضاربة الرمل:
واعجبا
سفينتكم رفعت كل المراسي
مبحرة
ألا تشعرون؟
وفي الحركة الثانية يتأزم الموقف بين الشاعر والعرافة فهي تعيش المستقبل واقعاً بينما لا يرى الشاعر في اللحظة الآنية أي داع لتشاؤمها ولا لقلقها:
وبادرتها راحما
هوني عمتي عليك
خيال العرافة
يعمي البصائر.
وتشهد الحركة الثالثة بداية قلقة لتحول موقف الشاعر، واسترجاعه نبوءة العرافة:
أحس دواراً وخوفا
كمن ركب البحر
أسائل عن ضاربة الرمل
فلله ما كان أصدقها.
وتتفجر الحركة الخامسة بالأسلوب الإنشائي المربك وتتابع أدوات الاستفهام تعبيراً عن مطبات الرحلة التي تترجم في النص تحولاً اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً سريعاً حدث لهذا الشعب البدوي بدون مقدمات
(على طبق من صحون الرياح):
إلى أين هذا المسير
يا قومنا؟
هل كتب التيه علينا
قدرا أزلا.........؟
وتصل القصيدة إلى موقف مأزوم يرجعها إلى بدايتها، كما تصل السفينة بدورها إلى موقع الغرر تتأرجح بين التيارات المختلفة وتحمل أكثر من احتمال لوقوعها أو نجاتها:
هل يعود السفين
والبحر
أم يسكنان؟
ما أنا أدري
ولا الأهل يدرون
ماذا يسجله
غدهم
وماذا سيرجعه
أمسهم...........
رحلنا...........
إن ما يجمع بين هذا النموذج من القصائد هو التوتر الذي يبدأ به الحدث ثم تأتي الحركة في القصيدة مكثفة أبعاد الموقف في كل لحظة شعرية كلما استمرت القصيدة حتى تعود إلى نفس التوتر والانغلاق الذي بدأت به.
أما النوع الثاني من هذا الشكل الدائري وهو"المفتوح" فإنه ينطبق على أكثر قصائد الثمانينات ويتميز هذا الشكل بأنه لا يتم دورته الشعورية ليعود إلى حيث بدأ وإنما هو ينتهي في القصيدة إلى نهاية"غير نهائية". "إنها نهاية ترتبط بالبداية ارتباطاً عضوياً، ولكنها ليست هي البداية، إنها نهاية مفتوحة"( ).
ويظهر هذا الشكل في قصائد"انتظار" و"القافلة" لمباركه، و"قراءة في كف أبي لهب" لعبد الله بن عمار، و"الأرض السائبة" و"مدينة الكلاب" لمحمد بن عبدى، و"هم الأهل" و"أبو الفلاشا" لناجي.
ويمكن أن نأخذ قصيدة"انتظار" نموذجاً لهذا الشكل الدائري المفتوح الذي تزامن مع الشكل الدائري المغلق:
- الحركة الأولى: الكوخ والريح عواء وبقايا وذباب
شاحنة تهز بالأزيز كل باب
- الحركة الثانية: تهدهد الأم وليداً عضه الدهر بناب
يحكون عن باخرة تمخر في العباب
- الحركة الثالثة: تنمو أحاديث عن الأيام والماضي الدفين
أطياف آلاف الرؤى تنثال في سكون
- الحركة الرابعة: وفجأة إذا بها في ثبج البحر الكؤؤد
ربانها مفقود...
- الحركة الخامسة: وأزف الحين ولكن ظهر العقاب
حملها لو كره
وأسدل الحجاب...
- الحركة السادسة: ونضبت دموعها
فانقشع الضباب
وهدهدت وليدها
ترى أيمطر السحاب؟
منذ اللحظة الأولى للنص نشهد ذلك التوتر المنذر بتفجير الحدث عن طريق الكلمات والجمل المبتورة، تأتي الحركة الثانية تفريجاً للأزمة بواسطة الأمل المعقود على مجيء الباخرة، وتعضد الحركة الثالثة الحركة الثانية عن طريق استرجاع الماضي المشرق،/ وفي اللحظة الرابعة والخامسة تستبق الأحداث بشكل سريع فيصعد التوتر من جديد ليبلغ ذروته، وتنغلق القصيدة على الحركة السادسة التي تفتح القصيدة على المجهول أو الانتظار الأبدي...
ومما سلف نلاحظ أن شكل القصيدة في المدونة بدأ بسيطاً وتدرج في التعقد ووعي الفضاء وهو ما تبرزه الأشكال المختلفة التي ذكرناها للقصيدة، وقد استعان شعراؤنا في تجسيد هذه الأشكال بصرياً بتكرار"اللازمة"، ثم بالفراغات البيضاء وأحياناً بالأرقام وهي نادرة.
كما ظهر الوعي بالعلامة والفراغ في هذه القصائد، مع تنمية الصراع القائم على الحركة والنمو والانقطاع وذلك بالاستفادة من أدوات التنصيص والرسومات وكذلك التأثر بتقنيات القصة والمسرح والرواية، وهو ما سنوضحه في الصفحات التالية:
حوار القصيدة مع الأجناس الأدبية:
من المميزات التي لا يمكن إغفالها ونحن نتحدث عن معمارية النص في مدونتنا، استفادة الشعراء من تقنيات فنية مستمدة من أجناس أدبية أخرى، لنتبين كيف حاورت القصيدة هذه الأجناس ومدى استفادتها منها وإثرائها لها:
وتجد هذه المزاوجة بين الشعر وبعض الفنون مبرراتها في انفتاح النص الشعري الحديث على غيره من الأجناس وسعيه الحثيث إلى التعددية أو ما عبر عنه الناقد بنعيسى بو حماله بـ"التواشج والتبادل بين كافة الفنون من رسم وشعر ورقص وموسيقى"( )، ولذا يكون إبراز هذا التواشج أمراً مشروعاً باعتباره مستوى من مستويات القراءة المتكاملة للقصيدة.
ولهذه المدونة اتكاء واضح على فن السرد القصصي وعنصر الحوار في تشكلها الفني وهو ما نستنتجه من معايشة الفترات المختلفة للمدونة.
وقد برز اعتماد الملمح السردي في القصائد الأولى مثل: "أطفالنا يتساءلون" لمحمد بن إشدو و"ليلة عند الدرك" لأحمد بن عبد القادر، وتقوم كلتا القصيدتين على تنمية الحدث الروائي عن طريق الحوار الصريح وذلك باستخدام المؤشرات الدالة على الحوار(يسائل- تجيب- قال- قالوا- قلت).
ففي قصيدة "أطفالنا يتساؤلون ينقل لنا الشاعر في واقعية ساذجة ذلك الحوار بين أفراد أسر المعتقلين:
"فوزي" يقول لأمه: بابا لماذا لا يعود؟( )
وتجيبه الأم الحزينة في صمود:
"أبوك حتما سيعود"
***
"تومي" يسأل أخته"آمي": أبي متى يعود؟
عمي لماذا لا يعود؟
أمي لماذا لا تعود؟
وفي قصيدة: ليلة عند الدرك" يستعرض الشاعر تجربة السجين السياسي وطريقة استجواب الشرطة له ويبث من خلال الحوار الصريح كل همومه السياسية:
قالوا له ماذا تضيف؟
لا تخف عنا أي شيء
فالنار والكرباج ينتزعان رأس السجين
مالا يريد
وتحلقوا من حوله مثل الكواسر والوحوش
وتبرز في هذه القصائد الأولى سيطرة الأسلوب الخبري، مما يدعم المنحى السردي القصصي.
وتنتشر ظاهرة السرد القصصي عبر المراحل الثلاث للمدونة، بل إن بعض الشعراء تكاد تكون من الثوابت الفنية لمعمارية النص عنده ونذكر بهذا الصدد أحمد في قصائده"ليلة عند الدرك"- "أمير الخالدين"- "السفين"- "الكوابيس"، إلا أن ما يميز أحمد عن غيره من الشعراء هو أنه يتخذ من ذاته(المتكلم) محوراً للأحداث في القصيدة، ويبرز نفس الملمح السردي في قصائد مباركه"انتظار"- "القلب الجريح"، كما نجده في قصائد محمد بن عبدي"قدم الملح"- الأرض السائبة"- "مدينة الكلاب". ويمكن أن نعلل حضور البنية الفنية للرواية وأثرة السرد القصصي لدى الشعراء في هذه الفترة بالأسباب الآتية:
أولاً: وجود رصيد وافر من القصص الشعبي لدى الشعراء، مما يجعل فنيات السرد حاضرة في لا وعي الشاعر وهو ينسج القصيدة.
ثانياً: أن الرواية كانت من أول الأجناس الأدبية الحديثة نزولاً في الساحة الثقافية بعد الشعر، وقد غزت أوساط المثقفين واهتموا بها، وكان روادها الأوائل من الشعراء( ).
ثالثاً: قد يكون لتأثير القصيدة العربية الحديثة أثر في اختيار البناء القصصي خاصة وأنه منذ أيام النهضة بدأت القصيدة العربية تأخذ لها مساراً قصصياً مثل: "الأرملة المرضعة: "لمعروف الرصافي"، و"الزهرة السجينة" لإيليا أبو ماضي( ).
وقد لاحظ الدكتور عز الدين إسماعيل أن"الأسلوب القصصي" قد يستخدم في بعض أجزاء القصيدة ليؤدي نفس المهمة التي يؤديها الحوار بنوعيه؛ وهي تجسيم الرؤى والمشاهد من أجل إحداث التأثير الدرامي"( ).
وكما أسلفنا فقد استعملت تقنية السرد القصصي والحوار الصريح منذ المرحلة الأولى لنشأة القصيدة الموريتانية الحديثة، إلا أن هذه التقنية ظلت عبر المرحلتين الأوليين للقصيدة محصورة في إطار السرد الخطي لا تكاد تعرف التضاريس ولا النتوءات.
أما بوادر السرد القصصي الدرامي، والاستمداد من فن المسرح والسينما والخرافة الشعبية فلم تظهر إلا مع قصائد الثمانينات، وهي فنية معمارية جديدة على النص الشعري الموريتاني الحديث، ويمكن أن نتبينها من خلال قصيدتي"الكوابيس" لأحمد و"انتظار" لمباركه تتخذ قصيدة الكوابيس شكلاً تواردياً لحلم مرعب يسيطر على الشاعر فيقوم بعملية استبطان نفسي تأتي رائعة في تفجيرها لأزمة الشاعر.
ويستثمر الشاعر في قصيدته كل طاقات الحوار الداخلي فيتداخل الواقع بالحلم وتتشكل معمارية النص بطريقة درامية نابضة.
ويبرز تأثير الخرافة أو الحكاية الشعبية في هذه القصيدة حيث تحمل مقاطعها أجواء الحكاية الشعبية بعوالهما الأسطورية الغريبة، وكائناتها المخيفة(الغول- السعالي- العفاريت- يأجوج ومأجوج)
ونادى مناد
يولول
أن العفاريت سارت
عواصمها
في صحارى المريه
وأن السعالي
صبغن الوجوه
وحلينا مساحيق عام الرماده
ويرقصن يطربن
يغزلن إيقاع جعجعة
والرحى يدورها
مارد أغلف
يعد رغيفا
ليأجوج ومأجوج
حامت على السد
وأخلت كهوف الهبا للهبا( )
إن هذا السرد القصصي وعنصر التشويق المعتمدة على الميثولوجيا الدينية والمحلية تقنيات بارزة في بنية الحكاية الشعبية والقصة، وقد حاول الشاعر من خلالها تأصيل نصه في التربة الاجتماعية وتلوين البنية المعمارية لقصيدته.
ولعل أنجح القصائد في استخدام فنيات الرواية والمسرح معاً قصيدة انتظار لمباركه، وتلقى هذه القصيدة الضوء على الواقع الموريتاني في منتصف الثمانينات فتصور الحياة بكل أبعادها، والمواطن الريفي مأخوذاً بزحمة المدينة وضوضائها، ينتظر في أحياء الصفيح وعداً خلبا وتتعاقب الأحكام من حوله، ويتكالب الساسة وحلفاؤهم من الزعامات التقليدية على موارد البلاد، ويظل هذا الإنسان الريفي الساذج المعبر عن ضمير الشعب المسكين منتظراً لكل الوعود المعسولة، وأخيراً تتكشف له الحقيقة ولكن هيهات.
هذا بإيجاز هو الحدث الذي تدور حوله رؤيا القصيدة.
يبدأ العرض بمنظر يملؤه الأسى"الإطار المكاني كوخ" فضاء ضيق، والإطار الزماني عائم غير محدود مما يوحي باستمرارية المأساة وضياع مفهوم الزمن لدى الأسرى المبتلاة بالانتظار.
وعناصر الطبيعة والمدينة في هذا المقطع تغلف القصيدة بنبرة تراجيدية ومناخ حزين يجعلنا نتوقع الدموع والموت ونتعاطف مع الشخصيات ونقرأ اهتماماتهم: شيخ أثقل الدهر كاهله، ولا يزال يجادل من أجل بقاء أسرته، و"أم ووليدها" يمثلان الاتكالية والسذاجة والحاجة الملحة.
الكوخ، والريح عواء، وبقايا وذباب
شاحنة تهز بالأزيز كل باب
والصمغ والشيخ العجوز يستعد للذهاب
مرتلاً يس ،
ويتدرج الحدث بإضاءة جوانب من نفسية الأم المسكينة حيث تسرح بأمانيها في مونولوج داخلي مستعرضة أخبار الباخرة وأحاديث الجارات عنها وتأكيد الساسة قدومها، وما تحمله من خيرات هي في أمّس الحاجة لها، وفجأة تقفز في ذهنها لوحة من الماضي المشرق فتقابل جحيم المدينة في ذهنها بأيام الريف الوادعة الناعمة ويظل الحاضر والماضي في تقابل حاد، لا يلبث أن يشده الواقع، بكاء الطفل الجائع، فتعود تطرح السؤال: "متى تجيء"؟
تهدهد الأم وليداً عضه الدهر بناب
يحكون عن باخرة تمخر في العباب
وتحمل الأطنان قمحاً، وزيوتاً وثياب
يوماً ستأتي من وراء البحر تمخر العباب
وتسكت الوليد لا بكاء لا عذاب
وفي انتظار...
قد تربح البضاعة.
تنمو أحاديث عن الأيام والماضي الدفين
أطياف آلاف الرؤى تنثال في سكون
يختلط الثغاء، بالخوار، بالحنين،
موال أمداح النبي يتعالى في الدجون
شاي، أحاديث، شجون،
والنار ترعى في الهدوء حطبا جزلا رصين
رباه عالم بما كان وكل ما يكون
متى تجيء؟
في انتظارها سنون وسنون
لكن ستأتي من وراء البحر تمخر العباب.
يبقى الحل لحد الساعة مرتبطاً بمجيء الباخرة، ويمثل العقدة في المقاطع الأولى"طول الانتظار" إلا أن الحدث ينفرج فجأة ليدفع الأمور إلى ذروة التأزم وتصل المعاناة شدتها، وتتلاحق الأحداث في أسرع من لمح البصر حين تظهر السفينة بلا ربان وتسعة رهط يتحينون بحمولتها، ولكن المفاجأة الكبرى تكون حين يظهر العقاب رمز السلطة أو المسؤول الأول ليوصد من دون الباخرة وحمولتها الأبواب، فلا يعرف أحد عنها شيئاً وعندئذ تتأكد الأم من ضياع الأمل وتواجه الحقيقة، فتتعالى القصور مقابل الكوخ، وتشيد المدارس والمساجد المعطلة، وإذا بالأم المسكينة تذوب حزناً وتنظر إلى السماء في يأس، تمني نفسها بالمطر، عل زمان الريف الوديع يرجع. وهكذا يبقى الحل معلقاً والمشاهد أو السامع يبحث عن مخرج:
وفجأة إذا بها في ثبج البحر الكؤود
ربانها مفقود
وتسعة من حولها قعود
وصالح سلمها لقومه وقوم هود.
وأزف الحين
ولكن ظهر العقاب
حملها لو كره وأسدل الحجاب....
***
وفي الصباح شاهدت مساجداً بلا قباب
مدرسة بلا كتاب
مخازناً من دونها تعملق البواب
وأقصراً بألف باب
ونضبت دموعها فانقشع الضباب
وهدهدت وليدها.. ترى أيمطر السحاب؟؟؟؟
فالقصيدة في مجملها قصة متكاملة قائمة على السرد أساساً وذلك باستخدامها الأسلوب الخبري، وأدوات العطف، وتتدرج في عرض الحدث حتى يصل ذروة التأزم وتقوم فيها شخصية الأم بدور محوري وتتحدد قسماتها من خلال العرض حتى تستدر العطف.
كما نلمس في القصيدة اقتراباً من المسرحية، فإلى ما ذكرنا من عناصر مشتركة بينها والقصة، نجد سلسلة مشاهد:
1) المشهد: الكوخ، النفايات، والإنسان المحروم، وهو ما يعكس شقاء الريفي المسكين في المدينة وفي العالم الثالث عموماً،
(تكسر البنية الاقتصادية القديمة).
2) المشهد: يصور معاناة الأم وإحساسها بالعجز وعذابها في الانتظار وهي تجهل كل الملابسات من حولها، تشاهد وتنطوي على ذاتها لتعيش خيبة الأمل(الذات تتأمل ذاتها).
3) المشهد: يعرض صورة الماضي الغني الذي يختلف عن الحاضر وهو ما يمثل تداخلاً بين الماضي والحاضر والمستقبل المحير.
فمن الحاضر إلى الماضي إلى المستقبل إلى الحاضر، وهذا التوتر التراجيدي والتداخل الزمني أثرا على تواصل السرد وشوشا عليه، وهو ما يشكل وعياً بالزمن وروتينيته وإيقاعه القاسي: (يستعد، تهدهد، لكن ستأتي، شاهدت) وهذا التداخل في الأزمنة والاسترجاع يضعنا أمام لقطات استرجاعية سينمائية.
4) المشهد: يعكس عنصرين لا متكافئين بل هما متنافران الكوخ/ القصور بألف باب، التواضع/ المسكنة، الفخامة/ الثراء الفاحش
(التفاوت الطبقي).
وقد لعبت الشخصيات دوراً مهماً في تحديد سير"الحكي" وقيمته حيث تجسدت فيها المواقف(الهرب من الواقع(الأم) أو الاندماج ومحاولة التكيف بائع(الصمغ)) كما حددت نوعية الوعي الصريح أو الضمني بالمجتمع وأشيائه الثابتة والمتغيرة.
كما امتازت هذه القصيدة- المسرواية- بأسلوب"الحوار" لكنه لم يكن الحوار القديم المعتمد على"قال" "قلت" كما في قصيدة"أطفالنا يتساؤلون" أو"ليلة عند الدرك"، وإنما على أسلوب جديد في الحوار يقوم على المنولوجات، وتداخل الأزمنة والضمائر وثنائية الماضي، الحاضر- الأمل، الواقع.
ويتبين من هذا العرض أن لكل من الرواية والمسرحية والخرافة الشعبية أثرها في معمارية القصيدة الموريتانية الحديثة، وإن تفاوت الشعراء في استيعاب فنيات هذه الأجناس وتطويعها في بناء القصيدة، بحيث سيطر الحكي البسيط والحوار الصريح على أغلب القصائد ولم تبرز الفنيات المسرحية واللقطات السينمائية والحوار الضمني إلا في قصائد لا تبلغ عدد الأصابع.
وإذا كنا قد استطعنا أن نتبين بعض مظاهر الحوار بين معمارية القصيدة وأجناس أدبية غيرها، فإنه يجدر بنا أن ننظر في التوزيع الفضائي للنص على الورق، أي الفسيفساء الخارجية لهذه البنية من خلال السمات الكتابية لها.
السمات الكتابية للقصيدة:
لم يأت الوعي بالمكان إلا مع ظهور القصيدة المعاصرة في ساحتنا الثقافية فالقصيدة المعاصرة تعيش صراعاً حاداً بين الخط والفراغ أو بين الأسود والأبيض وهو صراع لم يعرفه القدماء بنفس الحدة التي تعتري شاعرنا المعاصر وهو يشكل نصه. فالقدماء كانوا يعرفون مسبقاً حدود المكان عند كتابة النص( ).
وقد كان تبني السطر الشعري بدل البيت وتراوحه بين الطول والقصر بداية للتغيرات الفضائية في القصيدة، وجاءت الدعوة إلى الشعر الجديد مقترنة باستبدال البيت الشعري القديم بالسطر، واعتبار التفعلة وحدة عروضية لازمة بدل الشطر، ولنازك الملائكة فضل السبق في التنظير للشكل الجديد وتقنين أوزانه وأعاريضه والدعوة إليه بديلاً للشكل القديم( ).
ورغم صراحة الناقدة، الشاعرة نازك في آرائها، وتوضيحها القوانين الملزمة في الشعر التفعلة، فإن الشعراء المحدثين وبعض النقاد خرجوا عليها ورأوا في تقنياتها العروضية آراء رجعية تحد من حرية الفن وإرادة الشاعر( ). فجاءت كتاباتهم الشعرية متميزة متطورة، خاصة بعد ظهور الحركتين الدادائية والسريالية اللتين تبنتا نوعاً من الكتابة "الأتوماتيكية والطباعة غير المنتظمة: إذ يقولون إن الترتيب واللاترتيب للكلمات سيؤلف قصيدة من نظم الصدفة أو بالأحرى قصيدة بدون شاعر( ).
ويمكن القول إن أهمية الفضاء والإحساس بالمكان الذي سيطر على القصيدة العربية الحديثة نابع من أصل أوروبي، فقد فطن الشعراء الأوربيون إلى أهمية الفراغ وخاصة "مالارميه" في قصائده التي لا تعتمد على الجانب الطباعي فقط، ولكن على الفراغ أيضاً، فالفراغ عنده وكما سيكون عند النحات هنري مورجيا كوميتي وعند الموسيقى أنطون فيرن (الصمت) عنصر له أهميته في القصيدة والشعر( ).
ففي رسالة بعث بها "مالارمية" إلى "أندريه جيد" عام 1897 قال: "لتنظيم الكلمات في الصفحة مفعول بهي أن اللفظة الواحدة تحتاج إلى صفحة كاملة بيضاء.. وهكذا تغدو الألفاظ مجموعة أنجم مشرقة.
إن تصوير الألفاظ وحده لا يؤدي الأشياء كاملة وعليه فالفراغ الأبيض متمم)( ) وهذا ما يعبر عنه "رامبو" قائلاً: (يا نفس لا تصنعي القصيدة بهذه الحروف التي أغرسها كالمسامير بل بما تبقى من البياض على الورق)( ).
وقد برهنت هذه التجربة على العنصر التشكيلي للمكان، كوسيلة من وسائل توفير الإيحاء وتوصيل الدلالة للقارئ، فالفضاء الأبيض، نابض موح في القصيدة الحديثة.
وقد فطن شعراؤنا إلى أهمية التشكيل المكاني في القصيدة الحديثة، واتخذ شكل التغيير عندهم مسارين أساسيين، يتعلق الأول منهما بنمط الكتابة حيث شكل خروجاً على النمط القديم، ويتعلق الثاني برسومات موحية تصحب القصدية أحياناً:
أولاً: شكل الكتابة:
تتميز كتابة القصيدة الموريتانية المعاصرة بميزات أهمها الاعتماد على علامات التنصيص من استفهام وتعجب ونقاط تتابع وحذف وأقواس وفواصل وشرطة، ويختلف الشعراء في مدى استيعابهم لها وفي طريقة استعمالها.
ففي قصائد محمد بن إشدو وقصائد محمد الحافظ وأحمد تكثر علامات الاستفهام والتعجب، في حين تكاد باقي العلامات تختفي ويتضح من النماذج التالية ما ذهبنا إليه:
1-أطفالنا يتساءلون لمحمد بن إشدو
هل خول الإسلام للحكام تعبيد البشر؟
أم جوهر استقلالكم أن تذبحوها كالبقر؟
من أنتم حكامنا؟ من أين جئتم؟ ما الخبر؟
ما دوركم لا تصنعون على الأقل لنا إبر
ما فضلكم؟ لا تنزلون على الأقل لنا المطر
تتجبرون وتعتدون على هوانا كالقدر
لا تزرعون وتفسدون الزرع تجنون الثمر( )
نموذج 2: (ويكون بعد الفجر ثم لنا لقاء) لمحمد الحافظ
فلعل هذا الليل يدركه اللغوب
كي يشرق الفجر الجديد
وأرى الطفولة كالورود
ألقى من النحت الغناء
أتسلق التاريخ صافنة من الخيل العتاق
وتغوص حمحمة البراق
كالشمس دافئة بقلبي كالنخيل!( )
نموذج(3): (المجد للإنسان) لأحمد
.. من ذا الذي ضرب الظلام؟
ما للكهوف تجوبها درر الضياء؟
هل حطمت جدرانها؟
أم لفها
موج من الأنوار خفاق البروق؟
.. وتنبهت كل الشعوب وأرهفت
أسماعها وتساءلت عما جرى:
بلد صغير شعب صغير( )
وبمراجعة هذه النماذج نحس أن الشاعر تولد لديه إحساس بقيمة العلامات التنصيصية، إلا أن اعتماده على إشارتي الاستفهام والتعجب يكشف عن قصور في مدى استغلال هذه العلامات، وقد يكون سبب تركيزه عليهما دون غيرهما فهمه أكثر أسلوبي التعجب والاستفهام في البلاغة القديمة، كما أننا نلاحظ عدم دقة في توزيع هذه الإشارات أحياناً، كما في السطر الأخير من النموذج الأول والسطر الرابع من النموذج الثاني، فالإشارتان زائدتان لا معنى لهما.
ويبرز التركيز على قيمة الإشارات والوعي بوظيفتها المعنوية وقيمتها النفسية أكثر في قصائد الثمانينات، خصوصاً عند ناجي ومباركه ومحمد بن عبدي، فلا تتوقف دلالة العلامة على تنظيم معاني الجمل والفصل أو الربط بينها، بل تتعدى إلى أن تكون جملة قائمة بذاتها أو معنى يتولد من الفراغ أو الفضاء الأبيض، ففي قصيدة انتظار: يشغل الفضاء الأبيض حيزاً معلوماً للتعبير عن استمرار المعاناة وما يبعثه طول الانتظار من رتابة وسكونية يخفف من وطأتها الحلم ويستثيرها الواقع كأقسى ما تكون:
تهدهد الأم وليدا عضه الدهر بناب
يحكون عن باخرة تمخر في العباب
وتحمل الأطنان قمحاً وزيوتاً وثياب
يوما ستأتي من وراء البحر تمخر العباب
وفي انتظار..
قد تربح البضاعة( )
في هذا المقطع تبرز الأسطر الأربعة الأولى في امتداد فضائي ينسجم مع أجواء الحلم الذي تعيشه الأم في عالمها الباطني، وتتخذه متنفساً ومهرباً من الواقع الممض، ويأتي السطر السادس المركب من تفعلة واحدة (متفعلان) تاركاً أمامه ذلك الفضاء العائم والانتظار المعلق بنقاط التتابع، حيث يتضافر المعنى المعجمي والسياقي لهذا السطر (وفي انتظار) مع نقاط التتابع والفراغ الهائل بعدها مشكلاً ضحالة الواقع القائم على الانتظار والانتظار وحده، وهو ما يتسرب من لا وعي الأم وتجسده القصيدة بجسارة في تشكلها الفضائي، ثم يأتي السطر السابع تعليلاً ومداراة غير مطمئنة للنفس -قد تربح البضاعه- احتمالاً غير مؤكد في زحمة الرؤيا القائمة.
ونتابع مع القصيدة لعبة الأبيض والأسود، في مقطعها الثالث فنلاحظ خرق النص للقواعد الإملائية والنحوية، حين تنفصل سين المستقبل القريب عن فعلها مخلفة قطيعة تصدم القارئ المتشبث بالقاعدة فلربما اعتبرها سبق قلم، إلا أنها وبشكلها هذا ذات قيمة معنوية ونفسية بارزة في النص:
تنمو أحاديث عن الأيام والماضي الدفين:
أطياف آلاف الرؤى تنثال في سكون
يختلط الثغاء بالخوار بالحنين
موال أمداح النبي تعالى في الدجون
شاي.. أحاديث شجون،
والنار ترعى في الهدوء حطباً جزلا رصين
رباه عالم بما كان وكل ما يكون
متى تجى؟؟
في انتظارها؟ سنون وسنون
لكن
تأتي من وراء البحر تمخر العباب
لقد تراوحت أسطر المقطع ما بين أربع تفعلات إلى ثلاث عدا السطرين (8-10) وتبرز ثنائية (الماضي/ الحاضر) مهيمنة على فضاء المقطع كما هيمنت على المقطع السابق ثنائية الحاضر/ المستقبل فتمتد الأسطر مع الإثارة النفسية لأشجان الأم وهي تعرض لوحة من ماض تليد تجد فيها تعويضاً لحاضرها، إلا أن التساؤل الملح في السطر السابع (متى تجيء؟! يأتي سحبا لكل هذا الماضي، وتحمل الجملة الفعلية المصدرة بمتى؟ تكميما للزمان- هذه الرحى الدائمة الطحن- فلم يبق وقت للذكرى ولا للحلم، أمام زمان الواقع المرهق.
وهذه العلامة الاستفهامية متميزة بحيزها الفضائي، تثير السؤال على أشده، وتعلق البصر بالفضاء المكاني الذي تشغله وبالفراغ بعده، بينما يأتي الجواب على السؤال الكبير ردين اثنين: صريحا يتبادر من أول قراءة للنص ويتمثل في الإقرار بطول انتظار الباخرة والتفاؤل بإتيانها، وضمنياً وهو ما نقرأه بين السطور والحروف والانقطاعات، ويكاد ينفي مقدمها وكلاهما نابع من الصراع الداخلي للذات المتحدثة (الأم)، فكل المعطيات تنقض الأمل المتعلق به، ولكن الحاجة الملحة تجعل العاطفة تتعلق به وتتأسى بتحققه قريباً وتجسد القرب لغوياً عن طريق الفعل المضارع المسبوق بالسين، إلا أن الانقطاع بين الحرف والفعل يأتي بالغ الخطورة في الجملة فيتولد عنه ثنائي ثري الدلالة:
سـ
تأتي -قرب
اتصال
أمل الفضاء والانقطاع -بعد
انفصال
خيبة
لا بد إذن "أن تأتي الباخرة/ ولن تأتي الباخرة) فتظهر المعادلة من نوع فريد في ارتعاشة السين واستقلالها عن الفعل مخلفة بذلك أثراً للانفصام بين الأمل والحقيقة وبين الشك واليقين، ويبقى البصر مشدوداً إلى هذا الانفصام الذي تجسده فضائية النص، وهو ما يؤكد ازدواجية السمع والبصر في قراءة القصيدة المعاصرة، فلم تعد هذه الأخيرة تكتب لتنشد وإنما تكتب لتقرأ أولاً، إذ لا بد للبصر أن يستجلي غوامض النص ويتابع تشكله الهندسي حتى يساعد الذهن في حل رموزه ومغلقاته، بذا تصبح القصيدة جزءاً لا يتجزأ من دلالتها العامة وهذا ما خفف من اعتماد الشاعر على أدوات تعبيرية تأثيرية على المستوى الصوتي وإبدالها بإشارات وفراغات غير محدودة المعنى فتصبح على هذا الأساس طريقة الكتابة وما يصاحبها من ترقيم مهمة في بناء مدلول القصيدة.
ويكثر الشاعر: ناجي محمد الإمام من الأدوات البصرية في قصائده يقول في قصيدته "التيه" والبحر والذاكرة"( ):
أيها الحزن المفعم بالليل...
تماما.. تماما..
كما تشتهي
يغالب الزمن..
البحر..
البحر، البحر..
يا قراصنة الصلاة الوسطى.. تفرقوا
أيادي..
أيادي "البقاع"
ومن قصيدته هم.. الأهل..
جنوب المعاقل واقعة
سقط السيف فيها على خده
حين لم يبق في حده..
أي حد
وحين تساقط من غمده "الأمل"( )
إن وضع كلمتي "البقاع" والأمل" بين مزدوجتين يثير الانتباه والتساؤل عن معنى وراء المعنى، لا تشي به الكلمتان لمجرد سماعهما.
وإذ نراجع ذاكرتنا الجمعية، نفهم كيف عدل الشاعر بالمثل عن أصله (تفرقوا أيدي سبا) ليستبدل مكاناً بمكان، سبأ البقاع، وذلك للتدليل على مدى تشرذم الأمة العربية في الوقت الراهن وأن لها واقعها ما تستمد منه الدليل، فالبقاع في لبنان أكثر دلالة على الشتات من سبا القديمة.
وهذا المعنى ما كنا لنفكر فيه لولا وضع الكلمة بين المزدوجتين تمييزاً لها وعدولاً بها عن الأصل، وكذلك كلمة "الأمل" في النموذج الثاني، وضعها بين المزدوجتين ترتيباً لمعنى جديد تكتسبه، نفهمه حين نتذكر ما تقوم به حركة أمل في الجنوب اللبناني من قطع لأمل الفلسطينيين ومساندة للصهاينة، فنفهم أن لعبة (الآناكرام) أي التجنيس استغلها الشاعر مع المزدوجتين ليبني المعنى الجديد، ويعتمد ناجي كثيراً نقاط التتابع والشرطة لتقسيم المعنى والفصل بين المستويات الشعورية والمبالغة والتكرار:
سيبقى النخيل أبيا تماماً
كما الخيل في خيرها
ويعلو عن السقط- الفعل
والسفل- القول.. يعلو..
ويعطي.. فيعلو.. ويعلو.. فيعطي
ويسمو.. فيعطي.. ويعطي.. فيسمو
ويعلو.. وكم في العلاء من جلال( ).
تأتي نقاط التتابع في المقطع معضدة التكرار المعنوي للجمل ومبرزة جدلية المد والجزر -الانحسار والامتداد- الموت والبعث في الحضارة العربية، فأولها بداية إشراق، يختزن دوما نسغ التجدد كما يختزنه النخيل والخيل، كذلك استخدام الشرطة بين لفظي السفل والقول والسقط والفعل ليوحد بينهما في الجوهر، ويؤكد بذلك التحامهما من أجل الامتداد والانبعاث.
ويبرز الاهتمام بالشكل الكتابي عند محمد بن عبدي هو الآخر، حيث يجسد فضاء الكلمة صورة نفسية وشعورية غنية، تعكس فيها الكلمة ما تقول يقول في قصيدته "الأرض السائبة” مصورا تيه المجتمع وضياعه الحضاري:
هل فلكنا في الأفق موعده قريب؟
أسنصنع الفلك المصفح بالحليب؟
لنرتب الفوضى بفكر حائل
من كل زوج واحد
أسيفرج الطريق على الطريق؟
إني الغريق؟
والفلك يوغره الخروج من الرمال
يا ألف كهف في الطريق على الظلام
يا ذا الظلام
إني الغريـ...ق( )
ويأتي السطر الأخير كما توضحه الكتابة متقطعاً متباعد الأنفاس، نابض الحروف لهاثا للغريق وهو يحتضر، وقد جسدت الكلمة بحروفها الواهية الصلة نهاية الشاعر في زحمة الحصار بالهموم و